نصوص أدبية
سعد غلام: صَهِيلُ النُّبُوءةِ
سَأُفَكِّرُ فِي الصَّدَى وَأُمَدُّ نَفْسِي
فَوْقَ لَوْحِ الْحُلْمِ، أُصْغِي لِلسَّمَاءِ
2
سَأُسَافِرُ فِي جَنَاحِ الضَّوْءِ حُرًّا
نَحْوَ لَفْظٍ فِي مَدَارِ الانْتِهَاءِ
3
وَأُمَجِّدُ مِلْحَ نَفْسِي، ثُمَّ أَمْشِي
فِي مَسَارَاتِ الشُّرُودِ إِلَى فَنَاءٍ
4
يَا صَدَايَ الْمُسْتَطِيلُ عَلَى يَدَيَّ
كُنْ لِيَ النَّجْمَ الْخَفِيَّ بِلَا دُعَاءٍ
5
كُنْ دَلِيلِي، إِنْ تَعَثَّرَتْ خُطَانَا
فِي مَنَافِي الْوَهْمِ، أَوْ فِي انْطِفَاءٍ
6
كُنْ نَبِيًّا، كُنْ ظِلَالِي، كُنْ حَنِينِي
فِي كُتُبِ الْغَيْبِ، أَوْ فِي انْطِوَاءٍ
7
كُنْ سَمَاءً، تَرْسُمُ الظِّلَّ الْمُبَاحَا
فِي مَدَادِ اللَّيْلِ، أَوْ فِي جِهَاتٍ
8
كُنْ صِرَاخًا فِي جُنُونِ الصَّمْتِ، إِنِّي
أَخْتَنِقُ فِي الضَّوْءِ، أَوْ فِي خَفْقَتَيْنِ
9
أَتْرُكُ الْأَرْضَ الَّتِي لَا تُجِيبُنِي
وَأُفَكِّرُ فِي السُّؤَالِ وَفِي فَنَاءٍ
10
أَرْسُمُ الْمَعْنَى وَأَحْفُرُ فِي صَبُورِي
ثَغْرَ أَيَّامِي، وَأَكْتُبُ فِي عَنَاءٍ
11
لَسْتُ شَيْئًا، غَيْرُ أَنِّي وَجْهُ صَبْرٍ
يَتَمَشَّى فِي مَدَى نَفْسٍ شَقِيَّةٍ
12
لَسْتُ شَيْئًا، غَيْرُ هَذَا الصَّوْتِ، يَبْكِي
فِي مَدَى الظِّلِّ، وَفِي شَفَةِ نِدَاءٍ
13
قَدْ دَلَوْتُ اللَّيْلَ مِنْ جُرْحِي وَمَشَيْتُ
فِي نُزُوفِ الْمِلْحِ، حَافِيَةُ الْمَدَى
14
وَارْتَقَيْتُ اللَّوْنَ، حَتَّى لَمْ أَرَ غَيْرَ
نَارٍ تَسْتَفِيقُ مِنَ الصَّدَى
15
كُنْتُ فِي خَفْقَاتِهِ صَوْتًا خَفِيًّا
يَنْزِفُ الْمَعْنَى عَلَى وَجْهِ الْبُكَا
16
وَبَكَتْ فِي الْمَاءِ أَحْلَامِي وَمَاتَتْ
كَنُدَافٍ ضَلَّ فِي بُرْجِ الْهَوَى
17
وَأَنَا أَمْشِي، وَرَائِي لَا أَرَانِي
غَيْرَ حَطَّابٍ يُفَكِّكُ مُقَلْتَيْهِ
18
وَبِوَجْهِي كُلُّ وَجْهٍ كُنْتُ أَرْسُمُهُ
قَبْلَ أَنْ يَسْتَنْبِتَ الْأَشْوَاكَ فِيَّ
19
مَنْ يُرَتِّبُ دَمْعَتِي فِي كَفِّ هَذَا
اللَّيْلِ؟ وَمَنْ يَأْوِي إِلَى ظِلِّي وَيَحْتَجُّ عَلَيَّ؟
20
كُلَّمَا اخْتَلَيْتُ بِأَشْلَاءِ الرُّؤَى
قَالَ ظِلِّي: مَا اسْتَقَرَّتْ خُطْوَتَاكَ
21
كُلُّ شَيْءٍ فِي دِمَشْقَ تَنَفَّسَ النَّارَ
وَبَاتَ يُهَجِّسُ الْأَشْبَاحَ فِيكَ
22
كُلُّ نَايٍ قَدْ بَكَى، وَالْغَيْمُ كَانَتْ
دَمْعَةً أُخْتِي الَّتِي مَاتَتْ دُونِي
23
هَذِهِ الْأَرْضُ الَّتِي فِي صَوْتِهَا
قُرْبَةُ الْمَاءِ وَنَفَحَاتُ الشُّجُونِ
24
مِثْلُ نَجْمٍ كَانَ يَبْكِي فِي الرُّبَى
كُنْتُ -إِنْ أَدْمَيْتُ- أُغَنِّي لِلظُّلُومِ
25
وَسَأُصْغِي، كُلَّمَا ضَاعَتْ خُطَايَ
إِلَى الصَّدَى، يَشْهَى بِقَافِيَةِ السُّفُونِ
26
وَسَأَبْنِي، فِي الْخَرَائِطِ نَبْتَ نَفْسِي
كَيْ أُرَتِّقَ مِنْ جُرُوحِي مَا أُفُوقُهُ
27
رُبَّ ظِلٍّ كَانَ يَمْشِي فِي دِمَائي
قَالَ لِي: امْضِ، وَدَعْنِي لِلرِّيَاحِ
28
كُلُّ مَا فِي الْكَوْنِ يُصْغِي لِي وَيَبْكِي
وَأَنَا أُصْغِي لِنَفْسِي فِي الْجِنَاحِ
29
يَا أَنَا! كُنْتَ النُّزُوحَ وَكُنْتَ شَوْقِي
كُنْتَ دَمْعِي حِينَ أَضْحَى فِي الزَّمانِ
30
لَسْتُ أَعْلَمُ، كَيْفَ أَخْتِمُ هَذِهِ الرُّؤْيَا؟
وَكَيْفَ الْغَيْبُ يَحْفُرُ فِي جِنَاني
*
الكودا (نشيد الرؤيا)
قُلْتُ: يَا صَوْتِي، أَعِدْنِي لِلْبِدَايَاتِ،
أَعِدْنِي فِي صُدُورِ النَّارِ طِفْلًا
قُلْتُ: يَا نَفْسِي، تَجَلِّي، وَاسْجُدِي لِي،
فِي انْكِسَارِ الرُّوحِ، أَبْنِي لَكِ مَحِلَّا
مِنْ حَرَائِقِنَا نُفَصِّلُ وَجْهَنَا الآتِي،
وَنَكْتُبُ فِي انْشِقَاقِ الضَّوْءِ فُصْلَا
لَسْتُ أَعْلَمُ، أَيْنَ يَأْوِي الْحُلْمُ، لَكِنْ
فِي مَدَى الْمُفْتُونِ، قَدْ يَصْبُو، وَيُصْلَى
فَاصْعَدِي يَا نَفْسُ، إِنِّي قَدْ غَسَلْتُكْ
بِالرُّؤَى، وَالْمِلْحِ، وَالدَّمْعِ المُبَلَّى
وَارْفَعِي نَصِّيَ صَهِيلًا فِي الْمَدَارِي،
وَاجْعَلِي مِنْ شَعْرِيَ الْمَذْبُوحِ هِلَّا!
***
د. سعد محمد مهدي غلام
.....................
* هذه القصيدة ليست نَواحًا تاريخيًّا على مجاز الأندلس أو نحيبًا على ضفاف الفرات، بل هي شرفةٌ مطلَّة على الجرح الوجودي حين يُصغي الإنسانُ لصوته العميق في صمت الخراب. "صَهِيلُ النُّبُوءَةِ" سفرٌ شعريّ ينوس بين نداء الذات ونبوءة المجهول، يَشقّ فيه الشاعر خطاه فوق نار اللغة، ويكتب بدمه طريقه في الرمال، حيث الغياب لغةٌ، والمستقبل عُرْيٌ، والماضي جَمْرٌ تحت الجفن. هو ليس مديحًا ولا هجاءً، بل نجوى لزمن لم يكتمل، وأثرٌ لظلٍّ لا يزول.






