نصوص أدبية

علي شاكر: بوح الكوكب

أنا السيدة. أنا الكوكب. كنتُ مع صوتي كفارسة تعتلي صهوة جوادها الأثير، وعندما ننطلق في عدونا المهيب، كان كل ما حولنا يسكن إجلالًا، لكني أمضيتُ العقود الأخيرة من حياتي وأنا أغني بهشيم صوت، فكنتُ أنتفض على المسرح وأنا أعصر نفسي عصرًا للحصول على بعض صفاء الرحيق الأول. الآهات التي ندَّت عني وطرب لها الجمهور كانت صرخات لوعتي وألمي. وحدهم من حضروا حفلاتي الأولى كان بوسعهم اختبار ذلك التجلِّي. شيء يشبه السحر كان يحدث، يسلب الناس مفاتيح التحكم بمشاعرهم ويسلمني إياها. كان بعضهم يجهش بالبكاء، والبعض الآخر يقفز ويرقص، بينما يصمت قسم ثالث كأن على رأسه الطير.

عندما تركت الريف وانتقلت إلى المدينة ذات العوالم العجيبة الصاخبة، كانت أولى مغامراتي فيها حضور عروض المطربات اللاتي كن حديث الناس في ذلك العصر. أبهرتني أشكالهن وملابسهن المزركشة اللامعة، فوجدت نفسي بين خيارين: محاولة محكومة بالفشل للتمثُّل بهن، أو الانقلاب عليهن وتأسيس مدرسة خاصة بي، ملمحها الأبرز الاحتشام والجديّة. لم تكن هناك موهبة تقارن بموهبتي، ولا قدرات صوتية تنافس قدراتي سوى موهبة وقدرات الحسناء ذات الأصول النبيلة التي قيل انها هدّدت تربعي على عرش الغناء. ميزة صوتها الأبرز كانت إنه صوت ذو كبرياء، ملكي الجرس، مرهف ومُعطَّر.

أعترف انها كانت تعاملني بتوقير كبير وتقر بفضلي عليها، فما كانت لتحقق ما حققته لولا قيامي بتمهيد الطريق أمامها وأمام سواها من المطربات، لكني كنت أعاملها بودٍّ وعطف باردين حتى إذا اختليت بنفسي، كنت أنصتُ لغنائها والحزن يعتصر قلبي لعجزي عن بلوغ الرفعة التي وسمت أداءها بلا تظاهر أو مجهود. حاولت انتقاء ألحان واعتماد تقنيات تجعل غنائي يبدو أكثر سموًّا، لكن كل ما استطعت فعله هو الاقتراب من الوهج، دون اكتسابه. انهمرت دموعي غزيرة عند سماعي خبر رحيلها المبكر، لكن شعوري بالفجيعة تلاه احساس بالارتياح. نمت بعمق ليلتها، وعندما استيقظت تناولت فطوري بنهم غير معتاد، فقد صمت إلى الأبد ذلك الصوت الفريد.

انجازي الشخصي الأكبر كان انتصاري على الطبقة التي عاملتني باحتقار عندما بدأت بإحياء حفلاتي في المدينة. بريق المجوهرات الماسية التي تزيَّنت بها نساء الأسر الثرية كان أول ما يطالعني عندما تُفتح ستارة المسرح. كن يأتين إلى حفلاتي بدافع التسلية والفضول لمشاهدة الفتاة الريفية التي بدأ نجمها بالصعود. تعابير وجوههن المشمئزة، هزات رؤوسهن، همساتهن وضحكاتهن على مظهري كانت تقع على نفسي كالسياط. كنت أتحامل على ألمي بالغناء، فيتغير كل شيء ويأفل كل بريق أمام سطوع صوتي. أياديهن الناعمة كانت تتسلل إلى حقائبهن الصغيرة بحثا عن مناديل يكفكفن بها دموعهن، ثم تلتهب أكفهن بالتصفيق عند انتهاء وصلتي ويسارعن بالتوجه إلى غرفتي للسلام عليَّ ودعوتي إلى قصورهن، بل إن بعضهن كن يخلعن عقودهن وأساورهن وخواتمهن ويضعنها بين يديَّ ويلححن عليَّ لقبولها. شعرت حينها بأني امتلكت العالم بأسره، لكن جوادي بدأ بالتململ مني والتمرُّد علي في منتصف الطريق، فالاضطراب الذي يشهده جسم المرأة مع تقدمها في السن رافقته تغيرات في صوتي بدت طفيفة في بدايتها، لكنها أفزعتني وقرعت جرس الإنذار لصعوبة القادم من الرحلة. كماء عذب عكره الطين، راح شدوي يفقد شيئًا فشيئًا صفاءه ومرونته.

لا أستطيع وصف احساسي بالمهانة كلما اضطررت إلى الاتصال بأحدهم عبر الهاتف، فيظنني المجيب رجلًا لا امرأة، ويتلعثم من فرط الارتباك عندما يعلم هويتي. لتفادي الموقف البشع، صارت مساعدتي تطلب الرقم عوضًا عني وتبلغ صاحبه أني أود محادثته، ثم تناولني السماعة. كم تمنيت أن تنشق الأرض وتبلعني عندما كانت الخيبة ترتسم على وجوه الملحنين لعجزي عن بلوغ المناطق المرتجاة، فيقترحون إجراء تعديلات تجعل غنائي مستوفيًا للحد الأدنى من اللياقة. كنت أومئ بالقبول وأنا أجاهد لمنع دموعي من التساقط أمامهم.

التحدي الآخر الذي كان عليَّ مواجهته هو أن بعض الجهلة اعتبروا فني رديفًا لمساوئ القيادات التي اصطففت معها. وهكذا، بعد أن كنت رمزًا للثورات، تحولتُ إلى رمز للهزيمة، بضاعة مُزجاة وصوت حنين لدى الآباء والأجداد، ثم ظهرت على الساحة المطربة ذات الأغاني القصيرة التي لا تُسمن ولا تغني من جوع والالحان وطريقة الأداء إفرنجية الطابع. أجج صعود نجمها في داخلي غضبا عظيما وأشعرني بأنها تهدف إلى تقويض إنجازي والحط من شأني بأغانيها ذات الدقائق المعدودة التي جعلت الشباب ينصرفون عن وصلاتي الممتدة ويرونها هدرًا للوقت. أيضا، جمودها على المسرح وتفاعلها شبه المعدوم مع الجمهور رخَّصا من تجاوبي مع صيحات الإعجاب بإعادة المقاطع مرات ومرات، فصرتُ كمن تستجدي الهتاف والتصفيق، بينما تترفَّع هي عن الطلب. التزامها الصارم بالطبقات والنوتات المدوَّنة استحوذ على إعجاب النخب المتأثرة بموسيقى الغرب التي كانت تعتبر ارتجالي وتجويدي لكل سطر وآهة وانقياد العازفين لي فوضى تليق بعروض جوقات الغجر في الشوارع، لا حفلات المسارح المرموقة، حتى تقنية غنائها التي توحي للسامعين بأن صوتها قادم من بئر عميق جعلت صرخاتي الملتاعة تبدو كضوضاء الباعة المتجولين.

لجأت مضطرّة إلى المعزوفات المطوَّلة وتكرار المقاطع التي كان بوسعي تأديتها بشكل سليم، فالموسيقى كانت عكَّازي الذي توكأت عليه لإيصال المعاني التي عجز صوتي عن إيصالها. التخلي عنها وعن الإعادة كان سيكشف ستري ويعري ضعفي أمام الناس، ولذلك أمضيت أيامي الأخيرة في مناجاة السماء. شكوتُ إليها ضعفي وتعبي. سألتها عن الحكمة في أن تعطيني ما لم تمنحه لبشر، وترفعني في المقام حتى بلغتُ أعالي الذُرى، ثم تتآمر مع جسمي كي تسلبني أجمل ما فيَّ وتتركني أعيش القهر والهوان. توسَّلتُ إليها أن تجمعني بصوتي الأول، حتى لو اقتضى الأمر أن أموت، فأجابت السماء طلبي، لكن الإجابة جاءت مع غصَّة ...

***

علي شاكر

...................

*النص مقتطع من فصل "المطربة" من كتاب غرف سماوية: رواية؟ لعلي شاكر الصادر حديثا عن دار الثقافة الجديدة في القاهرة

في نصوص اليوم