نصوص أدبية

ذكرى لعيبي: كونٌ رماديّ

هل صار الرمادي أكثر وضوحًا وصدقًا وجمالاً؟
حين تصافحك يدٌّ، ثم تدفعكَ من أعلى قمة جبل؟
أو يد تصافحك نهارًا، وتطلق عليك الرصاص ليلاً!
أيادي طرّية الملمس بيد أنها تحترف خشونة مستترة، كدموع تماسيح توهم الضحية بعطف مفترض، بينما لا تبلع التماسيح ضحاياها إلا مع غدة تفرز ذلك اللعاب المرتدي ثوب الدموع! كم هي مخادعة تلك الأيادي الغادرة...
أليست الحقيقة تدعمُ نفسها، وتفنّد الباطل، مهما طال الزمن أو قصر؟
مثل شبح أو أدنى تجثم على شرفة عمري هذه التساؤلات، بيادر تساؤلات لم يحن موعد قطافها، غير أني أنوء بها منذ أحسست بتدفق العواطف في لبّي...
هناك ذكرى أيام رائعة، قد تعادل كل الحاضر، وأماكن تتنفس، تشتاق لنا ونشتاق لها، نتمنى لو نحضنها إلى الأبد... وذكرى أيام شنيعة، قبيحة وكريهة، تكتسحُ البراءة والجمال والضوء والحياة، بسببها تضيق بنا أرض الله، تُطبق على أنفاسنا، تخنقنا.
كان الوقت صباحاً، صحونا بفزع على صوت جرس باب البيت، وطرقات قويّة باليد، ثم صوت أجش ينخر عباب الهدوء:
ـ أصحووو.. أنتم نايمين؟
كأن الرب نفخ في البوق! هكذا شعرت ذلك الصباح.
قالت والدتي: يا ساتر يا الله، وراحت بخطى مسرعة تفتح الباب.
وقفنا جميعًا في الباحة التي تفصل باب البيت الخارجي عن مرفقاته الداخلية، رؤوسنا شاهقة، وأعيننا ناظرة! وقلوبنا ترتجف...
حتى انكفأنا بوجوهنا على الأرضِ جميعًا؛ عندما سمعنا والدتي وهي تصرخ:
ـ كيف مات؟ قتلتوه؟
كان أبي...
نعم بكل ما لأسم الأب من جبروت وهيبة، كان الفقيد أبي...
مات مغدورًا، بثلاث عشرة رصاصة في الصدر؛
قبل يوم واحد، قَصَد بيت عمّي القاطن في الريف، لمتابعة أمور الفلاحين والأراضي الزراعية هناك، ودفعْ أجورهم المستحقة.
وعادة كان يقضي اليوم والليلة عندهم، ويرقد في دارة الضيوف، لكن شاء القدر أن يفترش السرير الموجود في فناء الدارــ كما هي التقاليد هناك ــ غير أن الحدث الفاصل جاء ــ حسب الرواية ــ حين داهمَ البيت مجموعة من اللصوص، أو طالبي ثأر، تفاجأوا بوجود رجل ينام هناك، فأردوه قتيلًا وهو في إغفاءته؛ هذا ما رواه أحد أبناء العم! ولم أصدّقهم، ولن نصدّقهم جميعًا... لا أحد من الأحباب صدّق روايتهم؛
أصابع الاتهام توجّهت إلى أحد أولاد عمّي، الذي كان متواجدًا تلك الليلة في بيت أبيه، لكن كبير العشيرة؛ أمرَ بالتزام الصمت، حتى تنتهي أيام العزاء.
أمي طالبتهم بعدم إقامة أي عزاء... حتى يُعرف القاتل!
لكنهم أخرسوها بحجّة أنها غريبة عن العشيرة وعاداتها، وليست من نسبهم!
ونُصبت السرادق في منتصف الشارع، أمام الدار، تعلوها بيارق ورايات، وإلى جنبها "مناقل" دِلال القهوة والشاي، وفُتحت دور الجيران أبوابها للمعزّين والطبخ، وعلا صوت القارئ الشيخ عبد الباسط عبد الصمد؛
(يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي)
وخالطه صوت النواح والبكاء، وزحام حضور من أطياف مختلفة، كلها تدور في فلك تقديم العزاء، كانت كمسرحية مكررة لا جديد فيها إلاّ لنا نحن المفجوعين...
سبعةُ أيام بلياليها، كان الدمع ترياقًا لمصابنا.
خيّم الحزن علينا، كما خيّم الصمت، ووضعت الجريمة تحت طيّ الكتمان!
لم أرَ في حياتي، وربما لن أرى ثانية، ما فعلته النسوة في الأيام السبعة السود وهي مدّة العزاء.
ولم أنسَ ما فعلته بي إحدى بنات أعمامي في أثناء " اللطم"!
ـ حزن الشيخانيات " خبال"
هكذا قالت إحدى النساء الحاضرات، لترّد عليها أخرى:
ـ ليس حزنهن فقط، الشيخانيات عاشقات للحياة، قويات، جميلات، ولا يعرفن الوسطية، يقاتلن إذا سلب منهن حق.
نعم تنبهت لهذا الأمر، الذي لم أكترث له من قبل، لأنني لم أكن أحب حضور المناسبات الاجتماعية، خاصة تلك التي تكثر فيها مثل هذه التجمعات.
حزن الشيخانيات مرعب، مثل قرع طبول الحرب، لطمهنّ مثل هبّات إعصار في عاصفة عنيفة، مثل هيجان البحر وتلاطم الأمواج العالية، وكأنهن ينتزعن جلودهن، من أعلى الكتفين حتى حزام الخصر! هل يسترجعن حزن متوارث مبجول بغياب المؤثرين؟ أم ورثن إحساس خارق غير متعارف عند غيرهن؟
نعم... يدخلن (الصِيوان) ثم يلّففن العباءة على الخصر وتُشدّ، وتترك لتنزل حتى تغطّي القدمين، ثم يتهدّلن ويلطمنَّ وهنّ عاريات الجزء العلوي! ولم يتوقفن حتى تكاد تنزف أجسادهن.
انشدهتُ... أجساد بَضّة، ناعمة، وكأنها قطعٌ من بلّور أبيض مزينّة بحبات الكرز اللامعة، وأخرى مطعّمة بحبتين من ياقوت الرمّان، وكأنهن لم يحبلن أو يرضعن صغارهن! من أي جنّة هبطت هؤلاء النسوة؟
منظر رهيب؛ اختلاط الحزن بالجمال!
كنتُ أظنّ أنا فقط أتميّز بهذه الصفات!
وبينما أنا ما زلت في دُهشتي، اقتربت منّي إحدى بنات عمّي، وقامت بشقّ ثوبي من الطول للطول، وهي تصرخ:
ـ "أريد ألطم واشگ الثوب من زيجه، شلون أنتِ شيخانية وما تعرفين تلطمين"؟
صُعقت ولملمتُ ثوبي بيدّي، ثم ركضتُ صوب زاوية الصِيوان، وجلستُ أصرخُ من دون شعور، فَرَمتْ عليّ إحداهن عباءة لففتُ نفسي بها.
بعد هذا اليوم؛ لم أدخل الصِيوان ــ السرادق ــ المخصص لعزاء النساء، كنتُ أجلس في أي مكان أراه شاغرًا داخل البيت، لم أعرف الوجوه كثيرًا.
كنتُ أعجب منهن! نعم أعجبُ جدًا...
كنّ على كثر حزنهن ولطمهن ونواحهن نهارًا، يضحكن ويتندرن ويأكلن الخبز واللحم والفاكهة ليلًا! تناقض فج من وجهة نظري، غير إنه مستساغ من كوكبة القريبات! هذا التناقض يجعلني لبرهة، أنسى مصاب والدي، لأفكّر بمصابهن.
تذكرت حديث تلك المرأة عندما قالت: عاشقات للحياة.
نعم يقابلن عَقِيرَة الموت بضحكة الحياة.
ـ يقولون عندما شقّتْ "نسور" ثوب "رباب"، طلع المرمر! "هاي بنته وين ضامّة هذا الجمال؟"
ـ "ما سامعة، شيخانية بعد، لو المرحوم مزوجها لكويّظم، چا ما كتلوه."
ـ لا، "چا ما كتلوه علمود رباب، يگلچ علمود الگاع ومكاين سحب الماي من الشط."
ـ "ناس تگول حرامية رادو يبوگون الحلال، وشافو نايم بنص الحوش ورموا عليه!"
ـ العلم عندّ الله.
امرأتان دار بينهما هذا الحديث، ولم تعرفا أن المتحدث عنها تجلس بالقرب منهما! حتى جاءت إحدى البنات بقدح شاي لي:
ـ خذي رباب أشربي هذا الشاي ليزيح الصداع.
أيُّ شاي؟
وأيُّ صداع؟
وأية كارثة؟
وأيُّ عتمة تشبه قبر الأيام بعد هذا الذي سمعته؟
حينها التفتّتا مندهشتين من وجودي، ثم نهضتا مسرعتين وخرجتا، كشهادات زور فضح القاضي أمرهن...
انقضت أيام العزاء، وبقي هَزِيْز أمي.
غادر المعزّون، وبقيت العمّات وبناتهن، وبنات الأعمام وبعض الأقارب.
إذ لا مناورة في الأحزان الولادّة!
انفردتُ بإحدى الصديقات التي لم تفارقني طوال الأيام، وأخبرتها بما سمعت، فقالت: نعم هذا حديث الناس والشارع، ابن عمكِ هذا كان يعشقكِ، وخطبكِ من المرحوم الوالد، وحسب ما يقال نَهرهُ وحذّره ألا يكرر الأمر.
ـ لا أصدّق... قُتل أبي بسببي! هذا جنون... إشاعة نشروها لتُبرأ ساحتهم.
ـ الناس تقول ما تشاء، الحقيقة لا يعرفها غير الله وأهل الدار، فالبيت الذي قُتل فيه والدكِ لم يكن خالياً.
وانقسمت العشيرة إلى أكثر من فرقة، وكأن الانقسام قدر محتوم يبقى مستتراً وحين ينفجر بركان الكارثة؛ يظهر على الملأ كغيمة غاز خانق، تهبط تلك الغمامة وتغزو الرؤوس وتستقر رؤى الانقسام في العقول العطشى للكاف واللام...
أهل البيت قالوا: مجموعة لصوص أطلقوا النار وهربوا.
ابن العمّ المتهّم؛ أنكرَ تواجده في مكان الحادث تلك الليلة، والشهود أكدّوا كلامه.
السلاح الذي أطلق منه النار تَبخّر.
لا دليل على الجريمة، غير دمٍ مزّكى ارتوت به أرض جدباء.
تسلل الخوف بكل حوافره إلى روحي، المرايا التي حولي لا تفيض إلاّ بدمعي، بتُّ وَجِلة من مغبّة الخروج منها، فتتداعى مخيلتي، ويهوى كياني وأتكسّرْ.
أصبحت المرايا رغم عتمتها، مؤنسة، رفيقة تتحدث إليّ وأتحدّثُ إليها.
نسيتُ أناي الحاضرة ورؤايَ الحالمة، وتكرر في رأسي السؤال الحتمي (بَعدكَ مَنْ يحمي ظهري يا أبي؟)
بدأتُ بالاصفرار والذبول كورق الصفصاف في الخريف على متن نهر دجلة، فقدتني نضارتي كتلك الشجرة، وأصبتُ بالضعف والنحول، خصلات شعري السوداء الطويلة أصبحت تتكسر وتسقط...
أشعرُ كأن جسدي تحت وطأة حريق أرعن، وجرح روحي لن يندمل بيسر.
تفحصُتُ صباحاتي التي داهمتها الشيخوخة المبّكرة، وجهي المصبوغ بعروق الكركم... نهرٌ من دموعي الساكبات جرى بلا قرار، وصرختُ:
ـ يا الله... كيف داهمني هذا الزمن الأخرق بالعجز؟
ثم سقطتُ مغشيًا عليّ...
تجمّعت النسوة حولي، جاء أخي وحملني إلى فراشي، مسلوبة الإرادة، خائرة القوى، أتسرب مثل ماء بين أصابع تفكيري المشتت، لم أمسك بقطرة، وكأني ذبتُ مع الأرض التي ارتوت بدماء أبي، وتماهيت مع المرآة كأنها (أناي المذبوحة).
ـ حقيقة حالتها غريبة! كريّات الدم الحمراء تتكسر بشكلٍ سريع، من دون علّة عضوية!
هذا ما يخبرهم به الأطبّاء.
ـ "يمّة يعني شلون، الشيخ يريد ياخذها وياه"؟ صرختْ والدتي.
قالتْ إحدى عمّاتي التي أحب:
ـ أظنّ تحتاج إلى قارئ قرآن!
ـ لا... حالتها تحتاج إلى عارف بأمور السحر، رباب مسحورة. أجابتها ابنتها، فقاطعتها عمتّي الأخرى:
ـ الأفضل نأخذها لزيارة السيد (ابو سدرة) وتبيت عند شبّاكّه.
فغرقت في ثنايا فكرة ذهابي لمرقد السيد الهاشمي، الذي أخذ اسمه من موقع شجرة نبق ــ سدر ــ مُعمرة؛ لأجل الشفاء، كنت راغبة ليس لأسباب روحية أو علاجية، بقدر تقربي من نهر دجلة، حيث موقع المقام، فهاجس يغمرني بأن للنهر والماء علاقة بما أحس، غير أن صوت أخي تناهى قائلاً:
ـ لا هذا ولا ذاك، لابد من السفر إلى بغداد، مستشفى "الراهبات" الخاص هناك يعالج حالتها.
إلا أن الجميع اتفقَوا على أن يأتوا بالعرّاف للبيت؛ لأجلي...
وقد جاء العرّاف، ومعه صرّة من القماش الأخضر، وكيس فيه كتابان، جلس عند رأسي وأمسك به، وبدأ يقرأ بصوت مَهْمُوس، فتعكرّ مزاجهُ، وقطب جبينه، طلب منهم إحراق بعض البخور الغالي الثمن، وإحضار كوب مملوء بماء الشرب وطشت، ثم أشار بمغادرة بعض النسوة الحجرة.
أخرجَ من الصرّة بعض الأعشاب، وتركها تنقع في كوب الماء.
طلب من القريبات جدًا، أن يسندن ظهري، ويرفعن رأسي لأستطيع أن أشرب.
وما أن شربت الماء؛ حتى بدأتُ اتقيأ في الطشت الذي وضعه أمامي، قطع صغيرة بُنيّة اللون، كأنها دمٌ مُتجمّد، شعرتُ بالاختناق، مددتُ يدي إلى فضاء مفتوح، فلم أشعر بوجود بشر معي، خرجتُ من جسدي وركضتُ صوب البقاء... ما زلت اتقيأ:
ـ اتركوها تُـفرغ كل ما في جوفها، حتى تصل لمرحلة أن تتقيأ عصارة معدتها.
قال العرّاف.
ـ "ها مولانا ... رباب مسقيّة؟" قالت عمتي التي أحب.
ـ نعم... وضِعَ لها منقوع "الهبهاب" في شراب ساخن!
ـ خرافات وجهل؛ صاحت بنت عمّي.
ـ من نساء قريبات لها، قرابة نسب، رابطة دم، ردّ العرّاف بغضب عليها، وكأنه يقول لها سأنطق الاسم إن تطاولتِ أكثر!
ساد الصمت المكان، وبعضهن غادرن إلى ديارهن.
بدأ القيء يتحول إلى اللون الأخضر، ثم الأصفر، ثم سائل شفّاف، شعرتُ كأني نزعتُ من داخلي أجنّة لا تمت لي بصِلةٍ، أجنّة تخشى الحياة وصرخة الولادة.
ـ أريد ماء الورد. قال العرّاف.
بدأ يرّشهُ على وجهي، وكأني اغتسلُ تحت نثيث مطر وهمي.
ـ دعوها ترتاح، وتتغذى جيدًا من دون دسم، والأفضل أن تراجعوا طبيبا مختصًا، لأن ما فعلته ليس علاجا نهائياً، الشراب كان ملّوثا جدًا، وهذا سيترك أثره في جسدها.
العرّاف أنهى حديثه، وطلع وهو يتعوذ من شياطين الإنس والجن.
صحوتُ...
أبحثُ عنّي...
فلم أجدني...
بكيتُ على غياب أناي...
وبكيت أكثر على اضمحلال بياض القلوب...
لماذا قُتل أبي؟
ولماذا أردنّ موتي بهذا المنحنى المغلق؟
صحوتُ؛ ونأيتُ بنفسي عن طريق معبّد بقيود العقم وعلقم الاختيار...
تركتُ خلفي الزمن الذي تتسع فيه مجاعة الناس، وأطماع اللصوص، الكون الذي يبدو رماديًا، كلمّا حاولتُ أن أسند حقيقتي إليه.
عدّتُ أتأمل وجهي...
عمري المجعّد...
غُبار الأيام والأحوال...
ومددتُ أناملي، أبحث عن سماءٍ أوسع من سقف سرادق عزاء يقطر منه الدمع، أبحث عن أرضٍ زاهية بخضرة عميقة، عن نهرٍ يشفيني من الأمراض والكوارث، نهر ينبع من جنّة الله، يشبه دجلة قبل أن تتلوث بدماء الأبرياء...
تحررّتُ من مناكدات منقوع الهبهاب، وسواد النداء المبهم؛ عزفتُ لحني كرباب حرة، لم أكن أتصورني بوتر واحد كربابة بدوي يحاصره النأي والبعاد؛ بل أوتار متعددة تصدح كترديد اليمام الذي لم نميزه ــ منذ عصر الشاعر الفيلسوف المعري ــ أهو غناء أم نحيب...
ومع انبلاج فجرٍ جديد؛ ولدتُ نجمة مشعّة في مسار كون رمادي.
***
ذكرى لعيبي
ألمانيا / شتاء 2022

في نصوص اليوم