نصوص أدبية
فيصل سليم التلاوي: طوفان شارع الرشيد
صبيحة السابع والعشرين من كانونْ
رأيتُ ما رأيتْ
يا هولَ ما رأيت
رأيتُ سيلاً هادرا ضاق به الزمان والمكانْ
كأنه الطوفان
رأيته شلالَ عنفوان
يَنصَبُّ فوق شارع الرشيدْ
قد رُجّت الأرض ومادَتْ طربًا تزهو
رأيت مهرجانْ
سمعتُ من بعيدْ
دَوِّيَهُ المُجلجِلَ العنيد
زغرودةَ النساء آهةَ الشيوخ
غضبةَ الشباب صرخةَ الوليد
سمعتُها تكبيرةَ الحجيجِ نفرةَ العودةِ
فالصباح صبحُ عيدْ
تصنعُهُ غزة من صمودها
ومجدها الطارِفِ والتَليدْ
*
يارَوع ما رأيتُهُ في شارع الرشيد
وهذه الجُموع
زاحفةٌ هادرةٌ وجهتها الرُجوع
صابرة صامدة ما ضرَّ أن تَعرى وأن تجوع
كأنما من وَجدِها قد نسيت عيونها الدموع
عالمةً موقنةً بأنها تعود للرُكام
بيوتها وزرعها وضِرعها حُطام
لكنها تواصل المسير للأمام
ما ضامها الموتُ ولا الأسرُ ولا التشريدُ
ما طاب لها المقام
إلا عل رُفات منزلٍ تُدركه
تنصب فوق حجر منه تَبَقَّى خيمةً
وعندها يحلو لها المقام
قريرة العيون ملء جفنها تنام
*
رأيت عائدينْ وموج لاجئين
يجرفهم تدافع ويستفزُّ شوقهم حنين
رأيت شيخًا طاعنا وقد حنا قامتَه تتابُعُ السنين
يقول: قد حفظتها وصيةً عن جدي الشَريد
ووالدي الشهيد
ترنيمةً أحدو بها
تشتاقها مسامعي
أسمعها، صبحيةً، عشية، شَجية التَرديد
يغفو على تَرنيمها الوليد والوليد
يُورِثُها الوليد للحفيد
لأنها النشيد
(لا بد أن نعود)
والعودُ أحمدٌ لا بد أن نعود
وهذه الرؤى التي تُطِلُ في نهارنا السعيد
عودتنا الصغرى التي تُقرِّب البعيد
*
رأيت وسط زحمة الجموعْ
الذاهلينَ الحالمين السائرين في خشوعْ
رأيت طفلةً في عامها السابع تذرع الطريق
حافيةً تحمل فوق كتفها شقيقة ما جاوزت عامين
ذاهلةً ذابلةً مُطفأَةَ العينين
يسألها أحدهم: من أين؟ وتذهبين أين؟
ولم تُجب إلا بدمعتين
وواصلت صوب الشمال سيرها وما درت لأين
*
رأيت بين من رأيت
رأيتها مُغبرَّةً شَعثاءْ
ترفع كفيها وعينيها إلى السماء
سمعتها تلهجُ في الدعاءِ
مُستغيثةً راجيةً أن لا يخيب من دعائها رجاء
تقول: أولا ندفنُ أو نزورُ من قضى
وثانيا: سننفضُ الغبارَ والترابَ والصَدا
وثالثا: نَعُبُّ من هوائها
برغم ما خالطه: الدخانُ والبارود والتراب والرفاتُ:
كلُّ ما خلفه العِدا
*
ووسط سيل العابرين وقعت عيني على فتى
يَغذُّ سيره الحثيثَ واثق الخطى
يشدُّ نحو صدره طفلين حالمين مثل نجمة الصباح
وعابرا مُصليًا على النبي قبل أن يبسم للطفلين في انشراح
سمعت والديهما الفتى محييا يرد بارتياح:
يوم نزحنا معنا طفلٌ، وعدنا معنا طفلين
فالحمد لله الذي أنعم مرتين
وواصلت قافلة العودة سيرها
ولستُ أدري لمتى أو أين؟
***
فيصل سليم التلاوي
27/1/2025