نصوص أدبية
سعاد الراعي: بين غربتين (1)
كانت غارقة في متاهات أعماقها، تنظر إلى الفراغ الممتد أمامها وكأنها تستعرض جروحًا قديمة تنزف بصمت، فجوات داخلية لم يشفها الزمن رغم عقود مضت. اقترب منها بحنان وطبع قبلة على جبينها، فأفاقت من شرودها واعتذرت:
ـ عذرًا، كنت شاردة الذهن.
ــ لا بأس، حبيبتي. أين كنتِ؟
ــ رحلتُ قليلًا إلى الماضي... ظننتك منشغلًا بقلمك.
ــ ولماذا أرى الحزن جليًا في عينيك؟ حدّثيني، فأنا هنا لأصغي.
ــ إنه الجرح القديم...
ــ الم يكن بيننا اتفاق على دفن الماضي والمضي قدمًا؟
ــ ليس بهذه السهولة يا حبيبي.
ــ إذن لدي اقتراح: جربي الكتابة.
ــ الكتابة؟
ــ نعم، عبّري عن كل ما يُثقل روحك على الورق. اجعليه قالب ذكريات تستعيدينها أو تحاورينها بصدق وانفتاح.
أعاد اقتراحه إلى ذهنها ذكريات عملها السابق كمترجمة في عيادات الطب النفسي، حيث كان يُوصى المرضى باستخدام الكتابة كعلاج للصدمات. فكرت للحظة وقالت:
ــ فكرة معقولة، لكن كيف سأوفق بينها وبين التزاماتي اليومية؟
ــ سأساعدكِ وأوفر لكِ وقتًا من يومك.
ــ شكرًا، لكنني لا أريد أن يكون ذلك على حساب وقتك.
ــ لا تقلقي، سنتجاوز هذه الصعوبة معًا. فقط ابدئي، وأنا معك.
ــ نعم... دائمًا تكون البدايات هي الأصعب.
بدأت تبحث في أغوار ذاكرتها، مستعرضةً محتويات صندوق باندورا الخاص بها. وجدت أول خيوط تجربتها الأولى في الحب والزواج، وشرع قلمها يقودها بحذر بين أروقة الذكريات، مستكشفًا تلك الجراح القديمة التي كانت تنتظر أن تُحكى...
**
المكان: صوفيا
الزمان: أواخر السبعينيات، بعد ظهر أحد أيام يناير.
أعلن قائد الرحلة عبر مكبر الصوت وصول الطائرة إلى مطار صوفيا، قادمة من بغداد. وأتبع ذلك بإعلان الساعة المحلية: الثانية بعد الظهر، مع درجة حرارة تصل إلى 10 درجات تحت الصفر. شهقت بدهشة، ثم حدّقت من نافذة الطائرة. أمام عينيها امتدت بُسُطٌ من الثلج الأبيض الكثيف، تغطي كل شيء في الأفق وكأنها عالم جديد لا تعرفه. كانت تلك المرة الأولى التي تشاهد فيها الثلوج بهذا الحجم والطغيان، ولم يخطر ببالها أنها ستواجه شتاءً بهذا القسوة.
لم يخبرها زوجها، في آخر اتصال له، عن ضرورة الاستعداد لمثل هذا البرد القارس، خاصة وهي تحمل في أحشائها جنيناً نابضًا بالحياة وموعودا بالبدايات الجديدة.
أدارت رأسها ببطء، تتفحص الركاب بعينٍ قلقة تسبر الجلبة التي احدثوها، فإذا بهم جميعاً يرتدون معاطفهم الثقيلة، وشالاتهم الواثقة حول أعناقهم، وقبضات أيديهم تستكين في دفء قفازات تحارب صقيع صوفيا القارس، بينما وحدها هي لا زالت ترتدي فستانها الأبيض القصير مع حذاء بكعب، كما لو أنها في يوم عادي في بغداد. لم يكن لديها أي تصور مسبق من انها ستقف أمام لهيب البرد الصامت. لم يكن لديها أي تصور مسبق عن قسوة شتاء بلغاريا، ولم تكن تمتلك الأدوات التي نمتلكها اليوم من وسائل التواصل والبحث لتستعد لهذا الموقف.
بدا مشهدها وكأنه يمثل غربتين في آن واحد: غربة المكان، حيث الثلج صديق قديم للجميع هنا، إلاها، وغربة التجربة، وهي تتأمل عالَمًا بدا، كليًا مختلفًا عنها.
هذه الأفكار وسواها كانت تدور في ذهنها حين صفعها الهواء البارد وهي تنزل. انزلقت خطواتها على سلم الطائرة، مسرعة بنبض لهفة يسبق قدميها، تتأرجح بين لهفة اللقاء المنتظر، أو غارقة في ارتباك اللحظة التي احست فيها ان المسافرين يتطلعون اليها بدهشة تكسوها علامات تعجب، حول ملابسها الخفيفة التي تبوح بتناقضها الصارخ مع قسوة الشتاء الثلجي الذي يحتضن المطار. تشبثت بحاجز السلم في محاولة لاستعادة توازنها، وكأنها تحمي تماسكها الداخلي من الانهيار. كل تفصيل في حركتها كان يعكس صراعًا خفيًا بين هشاشة ما كانت فيه، وعزم الروح على المضي قدمًا. أكملت إجراءات المغادرة بشيء من الارتعاش المكتوم، وكأنها تطوي صفحة خوف قديم. حين خطت إلى الخارج، تنفست الصعداء؛ نسمة حرية لامست قلبها، وابتسامة صغيرة شقت طريقها إلى شفتيها، إشراقة فرح ممتزج بترقب القادم. كان اللقاء بزوجها الحبيب بعد غياب يلوح كدفء تنتظره الروح وسط زمهرير الذاكرة. ستجد حتما في هذا اللقاء أمانًا مؤقتًا لحياتها التي خيم عليها هاجس الفقد والهروب من مصير مروّع. كل خطوة هنا هي نجاة من الاختفاء القسري الذي ابتلع رفاقها، كل بتلة نفس هنا هي دليل على النجاة من أقبية التعذيب التي غيبت الكثيرين.
توجهت مباشرة الى صالة الاستقبال، بحثت في وجوه المستقبلين، لكنها لم تجده. انطلقت الى خارج المطار علها تجده هناك في انتظارها، خاب مسعاها. دفعت العنوان الذي احتفظت به لمثل هذه الأوقات للسائق، وبنبرة تحمل بين طياتها أملًا هشًّا. أومأ برأسه بابتسامة ودودة، ثم خطا خارج السيارة متجهًا نحو مؤخرتها. لم يجد الحقائب التي توقع ان يضعها في الصندوق الخلفي، فالتفت نحوها بنظرة تملؤها التساؤلات الممزوجة بالقلق. ابتسمت بخفة، ورفعت كتفيها في إشارة عفوية.
همست: "أنا هنا بلا حقائب."
لم تكن قد حملت معها شيئًا عندما غادرت العراق سوى حقيبة كتف نسائية. تركت كل شيء وراءها، متوقعة أن يُلقى القبض عليها قبل أن تصل إلى الطائرة. هي مطلوبة من الأمن العام لنشاطها السياسي المعارض للنظام. عادت بها الذكرى إلى وجه أمها عند صالة المغادرة، شاخصة ببصرها المليء بالدعاء، تهمس بآيات من سورة يس، متشبثة برجاء ان تصبح الكلمات جسرًا من الأمل يعبر بابنتها الى السلامة. كانت الأم تلتقط الأخبار من بعيد، مترقبة لحظة إقلاع الطائرة كعلامة على عبور ابنتها نحو الأمان.
كانت المدينة تستقبل عينيها بفيض من الأضواء والألوان التي ما زالت تحمل عبق احتفالات رأس السنة. راقبت كل شيء يمر أمامها بفرح طفولي وفضول متقد، وكأنها تبحث عن إشارات تُنبئها بشيء خفيّ من المبتغى. تساءلت في أعماقها عن سر غيابه، وهو الذي كان يعلم تمامًا توقيت وصول طائرتها. ربما أصابه عارض، أو أعيته علّة قديمة كان يُصارعها بصمت. لم تشأ أن تستسلم للقلق، بل احتفظت ببارقة أمل تشعلها الاحتمالات المطمئنة.
دفعت الباب الدوار للفندق، كان يعج بالأرواح القلقة، حيث تجمعت حكايات منفى حزينة في وجه المهاجرين السياسيين العراقيين الهاربين من قبضة الديكتاتورية الدموية. في وجوههم انعكست حكايات منفى مشتركة، ووجع واحد يسكن الملامح. شعرت وكأنها جزء من هذا الزحام، كأنها تحمل ذات الندوب، وذات التوق للأمان والطمأنينة. *
في قاعة الاستقبال، حيث تغمرها موجة من الترقب والاضطراب، حاولت استعادة نبضها الذي أرهقه الانتظار وسط ضجيج الرفاق الذين كانت حركاتهم تشبه عاصفة من النشاط والتواصل. كانت أجواء القاعة تختلط بين حرارة الترحيب وبرودة التساؤلات المبطنة التي قرأتها في عيون ممن حولها. لمسات الترحيب الحزبية من رفاق قدامى، أو من العارفين لزوجها في الداخل، منحوها لحظات دافئة في هذا المكان الغريب، قدح من الشاي العراقي الساخن الذي قدمه أحدهم والذي بدا كهدية من الوطن، يلامس شغاف قلبها. جلست تنبش في دفء الشاي الذي لم يسعفها في محو التوتر ولم يستطيع اختراق القلق الذي يتأجج في أعماقها. غمرتها قشعريرة خفيفة، وجدت نفسها عاجزة عن إمساك القدح، وضعته على أقرب مائدة اليها وجلست.
كان الحضور حولها يتحركون في دائرة من التساؤلات الصامتة. تهامس البعض بنظراتٍ غير خفية. هل أخبر أحدهم زوجها بوصولها؟ لماذا تأخر إن كان يعلم؟ كل هذه الأسئلة تضغط على روحها، تملأ رأسها المتعب، وكأنها دقات طبل في عقل مشوش. احاطت قدح الشاي بأصابع مرتجفة، تبحث عن دفء حقيقي ليس فقط لجسدها، لكن لطمأنت الروح التي أثقلها الإعياء وقلق الانتظار.
كانت هذه اللحظات بمثابة مشهد تجسدت فيه الغربة بأقسى صورها؛ قاعة مكتظة بالوجوه، لكنها وحيدة في تساؤلاتها، وأصوات تتحرك من حولها، لكنها صامتة أمام قلقها. الرفاق يدورون حولها، ليس فقط كحضور مادي، ولكن كمرآة لتلك التساؤلات التي زادت من حدة الصداع الذي بدأ يستولي على ذهنها نتيجة للإعياء والبرد وتعب الرحلة القلقة، الامر الذي أدى الى شعورها بالدوار والترنح في حالة من الغثيان والاغماء. أحضَر لها أحدهم قدحًا من الماء، كأنه أدرك أمنيتها الصامتة. رغم برودته، تناولته، علّه يُنعش روحها المنهكة، ويغسل عنها إرهاق اللحظات الثقيلة.
كان الليل قد حل، مرحبًا بها بطريقته، فيما أضواء القاعة تُبدد ظلام الانتظار. لم تُعِر انتباهًا للخطوات التي تقترب، لكنها عرفت وقعها كما يُعرَف نداء الحبيب من بعيد. كان يهبط السلم نحو القاعة بخطواته التي حفظتها ذاكرتها. نهضت فجأة، كأن الحياة بثّت في أوصالها نبضًا جديدًا. نسيت نفسها وما حولها، حتى قدح الماء الذي أفلت من يدها، سقط مرتطمًا بالأرض، ليبلل قدميها الباردتين، لم تكترث، وقفت بشموخ يليق بها، تُعلن حضورها بكبريائها.
دخل القاعة بهدوئه المعتاد، كانت المسافة بينهما تشبه تلك البرودة التي لم تعرف لها سببا ولم تألفها فيه من قبل، وابتسامة مُتكلّفة رسمها على وجهه، كأنما ليغلق باب الأسئلة. بادلته بعض الخطوات، ثم ارتمت في حضنه بكل ما تبقى فيها من حب وفرح، ناسِيةً معاناة الرحلة والانتظار. لم تبحث عن العتاب، ولم يسعَ هو لتقديم الاعتذار. كان اللقاء، بحد ذاته، كافيًا ليختزل كل شيء.
وحين استقر بهما الحال داخل الغرفة، انطلقت كلماتها كخيوط ضوء تتلمس طريقها، وهي تسعى جاهدةً لنسج تفاصيل أيامها المتناثرة منذ غيابه، محاولة أن تجمع شتات حكاياتها وصدى ذكرياتها المبعثرة على صفحات يومياتها بعد سفره، عن انقطاعها عن العمل، وتخليها عن الدوام الجامعي المسائي، وعن تلك الايام الصعبة التي أمضتها بين شراسة مضايقات رجال الأمن وفظاظة تهديداتهم المستمرة. أخبرته عن اختبائها وتغيير سكنها، وكيف نقلت، لوحدها أثاث منزلهم إلى بيت اهلها، في ليلةٍ واحدة، بحيطة وحذر يشبه من يمشي على خيطٍ رفيع خشية السقوط.
أخبرته عن اخر ما كان عندها من التوصيات والمعلومات الحزبية وأشارت الى انهم قد طلبوا منها بضرورة الاسراع في السفر لدواعي امنية ملحة. سلّمته بقية المال الذي تدبرته للرحلة، وجواز سفرها الذي ينبغي ان يصل إلى الرفاق. قالتها وعيناها ممتلئتان بفرحة النجاة، بنفسها وبجنينها. سألها عن والدته، وعن أحوال عائلته. طمأنته، وأخفت عنه تفاصيل المواجهة الشرسة التي خاضتها نيابة عنه، وعن قسوة تهديداتهم لها، وحتى عباراتهم التي وصلت حد الإنذار، استدركت بصوت يختلط بين الأمل والوجع: "كان لديهم يقينًا بعودتك طالما أنا باقية هناك قريبة منهم، وكأنهم لم يفهموا!".
شعرت فجأة بالحاجة إلى شيء من الدفء. لم تجد في خزانة ملابسه ما يناسبها، فاستعارت إحدى ستراته. التفتت إليه وسألته: "وكيف أنت؟ كيف هي الأحوال هنا؟". نظر إليها مطولًا، كأنما يقيس وقع كلماته قبل أن يقولها: "لقد تغيرت هنا كثيرًا!... لم أعد الشخص الذي كنت تعرفينه!" قالها بوضوح كالسيف، ثم كررها وكأنه يريد أن يثبتها امامها في الهواء. انتظرت منه تفسيرًا، لكنه اكتفى بمراقبة ملامحها. لم تسأله. لم تشك بسلبيته. كانت تحبه حد اليقين الذي لا يهتز. لم تفهم إشاراته ولا بروده، من عدم استقباله لها في المطار، إلى تأخره وفتور استقباله لها في الفندق. ظنت أن الوقت سيعيد كل شيء إلى طبيعته، لكنه باغتها بعبارات واضحة وصريحة، كأنها سهمٌ أصاب قلبها دون رحمة. صمتت، تركت كلماته تُعيد صداها في رأسها، وراودها شعور غريب لم تستطع استيعابه او تسميته.
أرهقها التعب، فاستلقت مكانها، تحضن جنينها، واستسلمت لغدٍ مجهول المعالم، كأنما حياتها كلها أصبحت مُعلقة على حافة غربتين، غربة الوطن وغربة الوحدة.
***
سعاد الراعي
فصل من رواية تحت الانجاز
............................
* تجلت مواقف جمهورية بلغاريا كملاذٍ آمن للشيوعيين العراقيين، ففتحت أبوابها تضامنًا مع أرواحهم المثقلة بالاضطهاد ومصائرهم المهددة. كان ذلك تعبيرًا إنسانيًا لافتًا في وجه موجات القمع والتصفية التي تفاقمت خلال النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي، حيث امتلأت السجون والمعتقلات بأجساد النشطاء، وشهدت أعواد المشانق كوكبات من المناضلين. جاء هذا الحِراك تضامنًا مع الديمقراطيين والمثقفين الذين وقفوا بشجاعة ضد ممارسات السلطة القمعية التي استباحت الحريات، والتي كانت فيما سبق محمية بظل تحالف سياسي هش سرعان ما تحول إلى سجنٍ آخر.