نصوص أدبية

مريم عبد الجواد: العودة (1)

سحبت نفسها من السّرير متثاقلة وهي تفرك عينيها كأنّما تمسح ما علق بهما من آثار النّوم. تمطّت في كسل ثمّ نهضت في اتّجاه المطبخ كي تعدّ قهوتها المعتادة متحاشية أن تلتفت الى السّاعة المعلّقة على صدر الحائط فهي لا تحتمل فكرة أن يقيّدها الوقت أو يسرق منها لحظات المساء الجميلة خُصوصا أيّام العطل. لطالما كانت تحرص كلّما سمحت لها الفرصة على قضاء بعض الوقت مع نفسها في غِنى عن صخب العالم وجنونه.

خرجت إلى الشّرفة وجلست الى كرسيّها كما تفعل في كلّ مساء، أصغت بشغف واستسلام لموسيقى "الفصول الأربعة" المنبعثة من الغرفة. كانت تجمعُها صداقة قديمة بالموسيقى اذ ألِفتها أذنها وصارت لها قدرة فريدة في قراءتها ممّا جعل لكلّ نوتة وقع عميق جدّا عليها. أرادت أن تتماهى كليّا مع هذه المقطوعة الخالدة فأغمضت عينيها وأرهفت السّمع لكنّ صوت أفكارها بدأ بالتّعالي حتى منعها عن ذلك. كان هذا المساء مختلفا، شعرت وكأنّ الأشياء جميعها تستغرقها وتعبث بهدوئها.

ربّما لأنّ القهوة أقلّ مرارة من المعتاد أو إنّها اليوم أقلّ حماسًا للحياة ولرؤية آخر بريق للشمس ينسحب تدريجيّا ويغرق باستسلام في أفق بعيد فيتركها لتغرق بدورها في الحنين لأمرٍ غابر. يبدو أنّه مساء برائحة الغياب. تمنّت لو باستطاعتها أن تنتزع الماضي بصخبه وجنونه من ذاكرتها، أن تعهد بنفسها الى الرّيح تحملها الى مدينة النّسيان فتبدأ من جديد، بلا تاريخ أو هويّة.

لكن الريح تمضي وكذلك المساء وتبقى وحدها جليسة هذا المقعد، سجينة ما كانت عليه وما قد تكونه. انها تعلم أنه من العبث أن تحاول امساك الوقت وإنقاذ الحاضر من التدفّق. انّه ماضٍ الآن ماضٍ الى أقاصي الغربة يحمل معه لحظاته الشّريدة وشيئا منها.

تنهّدت بعد شرود طويل وقالت كأنّها تخاطب شخصا آخر: " كلّ تلك المحاولات تبدو لي غير مجدية، لم يعلّمني أحد كيف أنجو بنفسي من الزمن ولا كيف أعيش يومي بلا ذاكرة تقيّدني الى الأمس أو خوف ممّا قد يحمله الغد. إنّ حاضري يتشكّل فقط من ثنائيّة ما حدث وما سيحدث وفي خضم ذلك تنفلت اللّحظة الحاضرة من بين أصابعي. "

قطع خيط أفكارها صوت خطوات تصعد السّلّم تبعتها طرقة خفيفة. وقفت في توجّس اذ أنّها لا تتوقّع زائرًا هذا المساء. اتّجهت بخطوات متردّدة نزولا على الدّرج ثمّ عبرت الصّالون حتى أدركت الباب. حاوطت أصابعها على المقبض محاولة طرد الهواجس من عقلها ثمّ أدارته لتجد فتاة في أواخر العشرينات ذات مظهر يحمل طابعا راقيا لكنّه غير متكلّف حتى بدا لها مألوفا بعض الشيء، كان التّوتّر باديا على ملامحها وقد ضمّت قبضتيها في محاولة لمداراة ارتباكها. وما ان فُتح الباب حتى انشقّ ثغرها عن نصف ابتسامة ثمّ قالت بصوت خفيض بدا أنّها تجاهد ليخرج مسترسلا:

- "السيّدة ايزلي"؟

تفحّصتها ايزلي قليلا ثم أجابت بنبرة جامعة بين التّأكيد عن كونها الشّخص المطلوب واستفسارٍ لمَ تريد:

- نعم؟

نظرت الفتاة الى عيني ايزلي بعد أن استردت أنفاسها وقالت بشيء من الهدوء وكأنّها تهمس بسرّ قديم:

- أنت تعرفين أنّ الماضي لا يرحل أبدًا، أليس كذلك؟

يتبع

***

مريم عبد الجواد - تونس

 

في نصوص اليوم