نصوص أدبية
جودت العاني: كاترينا وبائع الكتب..
أمام المقهى الذي اعتدت الجلوس كل يوم تقريباً في الصباح وعند العصر، وهو مقهى عريق في العاصمة اليونانية أثينا يقع في منطقة خلاندري عند منحدر شارع خلفي تظلله اشجار معمرة ذات لون يقترب من البنفسجي.. وأمام ركن المقهى المقابل محل لرسام وآخر مختص بالصور الجدارية وتغليف الجدران بالورق والديكورات، وآخر في المنتصف متجراً لبيع الكتب القديمة والحديثة.. المتجر فيه رفان متلاصقان مملوءان بالكتب والباقي مصفوفة على الأرض كالجدار حتى السقف.. والسقف فوقه طابق يصل بدرج من خشب حين يريد أحياناً أن يخلد صاحب المكتبة الى النوم.
وهو يفتح المتجر كالعادة من الصبح حتى الثامنة وربما التاسعة ليلا لكونه يقيم على سطح متجر الكتب وحيداً، وحين يقرع ناقوس الكنيسة المجاورة يهرع للصلاة ويترك متجره مفتوحاً.
يحفظ عناوين الكتب وأسماء الكتاب والمؤلفين قديماً وحديثاً ويعرف مكان الكتاب في زحمة أكداس الكتب التي تعد بالآلاف وبأحجام مختلفة.
وحين تجلب لي نادلة المقهى الجميلة كاترينا القهوة اراه غاطس في قراءة كتاب بلا ملل، ينهيه ليأخذ غيره بشغف بالغ.. يرشف من فنجان قهوته التي يحضرها في دورق ساخن في الصباح ويعود الى سطوره الساحرة التي تشده شدا.. إنه نهم ولا يشبع حتى ينسى نفسه بين سطور الكتاب إلى درجة يتحلل فيها الزمن من حوله ويتبدد.
سألت كاترينا ذات مره: ماذا يفعل آدم في هذا المتجر؟
ألا ترى إنه يقرأ..؟
وذكرتني كاترينا بإجابات جارتي العجوز التي لا تجيب بشكل صحيح وصريح، إنما تجيب بسؤال..
أعرف إنه يقرأ، ولكن ماذا يفعل خلال يومه الممل؟
كاترينا: ليس مملاً، هو يقرأ ويستمتع فحسب..
ألا يشبع من القراءة طوال اليوم؟
أجابت: إنه كما أنت تستمتع بقهوة الصباح والمساء.. واطلقت ضحكتها المحببة بشيء من الغنج الأنثوي ودخلت المقهى وعلى كتفها يتأرجح شعرها الذهبي كأمواج البحر.
جاءتني بحلوى.. تفضل هذا على حسابي..
رفعت نظري نحو صوت عراك على سقيفة محل الرسام أمامي بين طائرين يتنازعان المكان..
هل ترين ماذا يحصل هناك أمامنا؟
أجابت: وهل يتنازعان على العش أم يتنازعان على الأنثى؟
ارى انهما يتنازعان على العش.. فالمنتصر ستأتي إليه الأنثى.
قالت: العش ليس هو ألأساس، وقالتها بثقة وحزم.
وماذا عن بائع الكتب؟
ألا تكف عن الحديث عنه؟ لماذا لا تدعه وشأنه يفعل ما يشاء؟ إنه يحب القراءة فحسب.
قاطعها، لا أدري إن كانت زوجته قد تحملته وهو يحب الكتب أكثر منها.؟
قالت: نعم إنه يحب القراءة اكثر من أي شيء آخر.
لذلك بات وحيداً، ربما تركته زوجته لهذا السبب.
اجابت: إن حدسك في مكانه.. لقد تركته منذ أكثر من عقدين من السنين.
وهل لديه اولاد؟
إبنة واحدة، عافها وهي بعمر خمسة اعوام.
ربما تكرهه الآن؟
قد لا تكرهه، وإنما تكره سلوكه.. إنه يظل أباها ولا أحد ينكر ذلك.
يبدو، إنك تعرفين عائلته..
نعم، زوجته والدتي التي كان لا يهتم بها بقدر المكتبة وقراءة الكتب.. وتلك هي العقدة.
لماذا لم تقرأ زوجته الكتب مثله؟
تلك هي طباع الناس..
وهل يعرفك، أنت إبنته؟
كلا، وأنا عرفته من خلال والدتي حين جاءت ذات يوم لتأخذني إلى المستشفى.. حينها قالت لي، هذا هو أباك..
فعرفته، ولكن لم أكلمه ابداً وهو كذلك لا يعرفني.. اكثر من عقدين من السنين، ليست قليلة.
وهل تحنين إليه؟
إنه أبي رغم كل شيء.. أما والدتي فقد اهملها ولم يبال بإنفصالها عنه حين اصدر القاضي قرار الطلاق، هي من اعلمتني بذلك. وأضافت: اعتقد بأن لا ود بينهما، فهو لا يهتم بها وهي لا تكترث له.
أين والدتك الآن؟
إنها طريحة الفراش وتعاني من مرض يمنعها من الحركة.. وأنا أعمل من أجلها.
لم لا تصلحا الحال؟
لا أحد يريد ذلك.
من أجلك،
هي لا تريد الاقتراب منه بفتح سجل الماضي، وهو لا يعرف من أكون ولا يريد أن يفتح طريقاً جديدا.
هو لا يعرفك إنك إبنته.. وأنت تعرفين أنه والدك.. ألم يكن ذلك عذاباً مستمراً؟
لم لا تتحدثين إليه وتتقربين وتؤكدين له احترامك واهتمامك به..
اخشى ردة فعله.. إنه لا يعرفني.. ولا يريد ان يصلح الحال مع والدتي.. فما العمل؟
مسيرة ألف ميل تبدأ من خطوة واحدة.. هذا هو درس الحياة.
***
قصة قصيرة واقعية..
د. جودت العاني
27/11/2024