نصوص أدبية
نضال البدري: طائر غريب
كانت سعادته لا توصف حين دخل المنزل وبلهفه ينادي (يمه.. يمه)، بين يديه قفص داخله طائر صغير، شكل الطائر وحجمه والزغب الذي يكسوه يدل على أنه قد فقس توا من البيضة؛ له منقار احمرٌ صغير معقوف نحو الأسفل، اشبه بمنقار. ببغاء..
دوما يعيد ويكرر سؤاله لي، لماذا لم تنجبي لي اختا او اخا، توقفنا عن الإنجاب لمرض أصاب والدك وبه توفاه الله، تاركا امك شابه متوشحه في السواد، جمحت رغباتها، وأدت احلامها قبل ان ترى النور...
من حينها لم تدخل السعادة منزلنا، لم افكر بالزواج من رجل اخر بعده.. ربما وجود ذلك الطائر سيمنح البيت حياة جديدة للمنزل ويخفف ولو قليلا من الوحشة والفراغ الكبير الذي لازمنا طويلا . سألته:
ـ لم جلبته صغيرا هكذا وحرمته من امه! ؟..
ـ كي ينشأ اليفا غير مؤذ فلا أكون مضطرا لقضم منقاره الصغير حين يكبر، هكذا يتم تربيه هذه الأنواع من الطيور، إنه جميل جدا، سترين ذلك بنفسك حين ينبت له ريش ملون وذيل طويل، كما وانه يتميز بذكاء عرف به حين يكبر قليلا. انا على ثقة كبيرة انك ستحبينه و تعتادين على وجوده.
حين يكون ولدي خارج المنزل، كنت من يقوم بإطعامه ورعايته، لم تكن العملية سهلة، بل كان علي أن اخفف له قليلا من القمح المطحون مع الماء في أنبوبة زجاجية رفيعة برأس معقوف خصصت لهذا النوع من الطيور، أقدمها له كطفل رضيع متحاشية قدر الامكان لمس منقاره..كنت اشعر بمتعه كبيرة حين اقوم بذلك..
سريعا تمر الأيام، وتنقضي اربع أسابيع، صار بإمكان الصغير ان يلتقط الحب بمنقاره، و له نبت ريش بلون فيروزي جميل كساه وأعطاه شكلا مميزا، كانت له عينان دائريتان اكتحلت بهالة سوداء احاطت بهما ونظرات حاذقه ملفته لكل من ينظر اليها.. اعتاد الطائر ان يأكل من يدي وصار يميز شكلي جيدا و يحلق نحوي سريعا حين اترك له باب القفص مفتوحا ويحط على كتفي وكأنه يهمس بأذني ويود أن يقول لي شيئا، كنت حريصة على ان أعيده لمكانه حين انتهي من إطعامه، حرصا عليه من ان يطير للخارج سعيا وراء الحرية، او خوفا من أن يصبح وجبة دسمة للقط الذي كان يتربص به من خلف زجاج النافذة.
ذات صباح سمعت صوت اهتزاز وضربات قادمة من القفص!!..اسرعت نحوه كان الطائر مضطربا، يصفق بجناحيه وكأنه يحاول الخروج، ربما كان جائعا، احكمت غلق النوافذ وفتحت له باب القفص، طار مسرعا كعادته وحط فوق كتفي، وضعت له حفنه من حبوب الحنطة، حوَّل راسه نحوي ممتنعا عن الكل وراح يتسلل بقدمية الصغيرتين بين خصلات شعري، شعرت وكانه مازال صغيرا وبحاجه لامه، وفكرت ربما حين يكبر قليلا سيكون بحاجة الى زوجة، اطال المكوث ساكنا دون حراك، كلمته:
ـ (كوكو) ـ كما اطلقنا عليه ـ، هيا أخرج كفى لعبا!
حاول الاختباء اكثر ممتنعا عن الخروج، نجحت في سحبه واخراجه ثم إعادته الى القفص، في صباح اليوم التالي أخرجه ولدي من قفصه كي يطعمه ويلعب معه كما يفعل كل يوم قبل ان يذهب الى مدرسته، لفت نظري هدوئه! متسائلة: كيف لا يكون بهذا الهدوء حين أطعمه انا؟
ـ أمي ربما انك تخيفينه، ألا ترين كم هو لطيف!!؟؟..
صمت وأكملت شرب الشاي. أصبح الطائر يشغل تفكيري حين بدأت تتكرر تلك الاشياء الغريبة التي يقوم بها، وخصوصا حين يزداد اضطرابه ساعيا للخروج من القفص كلما أحس بوجودي ولو من بعيد وكأن له انف كلب مسعور يشم به عطري.. قررت أن احكم اغلاق باب القفص بشريط كي لا يخرج لكن هالني ما رأيت! فقد حل الوثاق بمنقاره وطار نحوي كمن يباغتني وكأنه يستأنف هجوما على عدوه من جديد، حط على كتفي مخترقا خصلات شعري كما كان يفعل سابقا، الجلد من تحت شعري يقشعر، يواصل سيره نحو ظهري مخترقا الثوب الذي ارتديه، شعرت أن مخالبة الصغيرة أصبحت كمخالب نسر كبير راح يغرسها في ظهري بشدة، صرخت بشكل هستيري صرت ادور واقفز مذعورة وحدي في المنزل محاولة اخراجه، قوتي تركزت في يدي، أخلع ثيابي عن جسدي، كي اتخلص منه ثم نجحت في إمساكه، صرنا انا والطائر نحدق في أعين بعضنا، قبضت عليه بكفي ورميت به نحو الجدار، وقع مستلقيا على الأرض، حدث ذلك في طرفة عين!!.. راح يحرك قدمية بالهواء وينظر نحوي، بدت عيناه كعين بشر، ارتبكت لدرجة لم اعرف أينا قد هجم على الاخر انا ام الطائر، بعد أن هدأت وتأكدت من انه لم يعد يقوى على الحراك، اعدته بحذر الى مكانه واغلقت باب القفص عليه، قررت أن لا أخبر ولدي بشيء كي لا أتسبب بقلقه وحزنه، منذ ان حدث لي ما حدث أصبح الطائر قليل الحركة وقليل الطعام..
شغل تفكير ولدي واحزنه حاله كثيرا متسائلا:
ـ امي الا تعلمين ماذا أصاب (كوكو)؟
ـ ومن أين لي ان اعرف ربما قد يكون مريضا..
خيم الحزن والكأبة على ولدي، بعد مرور يومين وجدنا الطائر مستلقيا على ظهره متيبسا ميتا، وجحافل النمل تتقدم نحوه تغزو جسده...
كنت اسأل نفسي: هل كان يستحق نهايته أم مات مصابا بسوء ظن؟!!
***
القاصة: نضال البدري / العراق