نصوص أدبية

أنمار رحمة الله: حكايةُ المسْموم

(الضابط)

إنها المهمة الأولى لي بعد أن تم نقلي لهذه المدينة. كان الوقت عصراً في فصل الصيف، حيث انتشلنا جثته من النهر. كنتُ مُشرفاً على عملية انتشالها برفقة بعض رجال الشرطة وموظفي الصحة فقط. لم أفهم  في حينها كيف تركني وهرب رجالي وموظفو الصحة، بعد أن تعرّفوا على هويّة الغريق. حتى أن بعض الصيادين الذين كانوا يراقبوننا من بعيد، شغّلوا محركاتهم، ورموا الأسماك التي اصطادوها في النهر، ولاذوا بالفرار!!. لبرهة تسمّرت في مكاني وأنا أطالع عبثهم وذعرهم وتقافزهم هنا وهناك كأنهم أرانب. وحين صرختُ بهم أن يعودوا أجابوني بأصوات متفرقة (من يبيع نفسه ويقترب من هذا المسوم؟.. لدينا عوائل.. أنت لا تعرفه كما نعرفه). ثم هرولوا جميعاً وهم يحذّرون الناسَ الاقتراب من النهر. وصرتُ أسمع من بعيد صياحهم (المسموم مات في النهر.. المسموم في النهر). الغريب أنني لاحظتُ الجميع يفرّون من حولي، إلا بعض الصبية الذين جاءوا يهرولون واجتمعوا حول الجثة، وكان يبدو عليهم الحزن والدهشة.

***

(الزميل)

لقد عشتُ مع المسموم سنوات الطفولة. في البدء لم نكن نخشاه كثيراً، حتى نبّهتني أمي بعد أن انتشر الخبر بين أهل الحي. قالوا أن أمّه التي لا تخالط نساء الحي مختلّةُ العقل. وأنها أرادت قتل نفسها وهي حبلى به، لأن زوجها أكتشف أن الجنين في بطنها من رجل آخر. وبعد عراك شديد مع زوجها غريب الأطوار، الذي كان أهل الحي يصفونه بالمُعقد والمجنون، شربتْ الزوجة سمّاً قاتلاً. لكنها لم تمت بذلك السم الذي جرعته. وقيل أن السم قد تسرّب إلى جنينها من خلال بدن أمه وهو في رحمها!. ومنذ ذلك الحين صرنا لا نقترب منه. وإذا لمسناه سهواً ذهبنا إلى المغاسل لكي نشطف أكفّنا. لم أر في يوم أحّد المعلمين لقد لمسه أو طبطب على كتفه كما يفعلون معنا عادة. لقد دخلنا إلى المدرسة وخرجنا منها والمسموم لم يجلس مع أحدنا على رحلة. بل لم يلعب معنا في الساحة ولم يشاركنا أي نشاط كنّا نقوم به. وحين كنّا نطرده لا يرفض بل يوافق من دون اعتراض ويمضي في طريقه. وحين يتغيب عن المدرسة كنّا نتنفس الصّعداء.

***

(الحجّي)

والله كلّفني المسموم الكثير من الفناجين والأقداح والأكواب. أنا أستحي منه أقسمُ بحِجَّتي، لهذا لم أستطع طرده من المقهى. لكنني كنتُ حين ينتهي من شرب الشاي ويمضي في سبيله، أمسك الكوب بمنديل من طرفه وأرميه في سطل النفايات. الزبائن كانوا يهربون من المقهى ولا يدخلون حين يلمحونه جالساً. ولأنني رجل أخاف الله كنت أراعي مشاعره. لهذا لم أطرده ولا مرّة أقسمُ بحِجَّتي، ولم يكن ينتبه إلى ضجري من حضوره وتواجده. كم حمدتُ الله وشكرته حين خرجتْ من غيري ولم تخرج مني. فقد أنفجر بعض الزبائن في وجهه غضباً وضيقاً من تواجده. لا أخفي فقط كنتُ مرتاحاً لهم حين ضايقوه وخرج من المقهى ولم يعد. والمريح في الأمر أنه لم يعارض أبداً، ولم يعتب عليهم أو عليّ حين سكتُّ عنهم لما تصرفوا معه بهذه الفظاظة. بل خرج من المقهى بهدوء وكان بادياً على وجهه الرضا.

***

(الطليقة)

لم أفرح في حياتي كما فرحت في اليوم الذي طلّقني فيه. ذنبي الذي لن أغفره حين تعرفتُ عليه وتم زواجنا ذات يوم مشؤوم. في الحقيقة أنا لستُ من أهل المدينة التي عاش فيها، بل أسكن في مدينة أخرى. ولم يكن أهلي يعرفون تاريخ هذا المسموم. لقد تعرفنا من خلال برنامج على الأنترنت. برنامج لتعارف العازبين والعازبات. ولأن قطار الزواج قد فاتني، صرتُ أتنازل وأقبل بأي عرض مناسب لعمري وحالتي. حين بعث لي صورته أعجبتني هيئته. ثم لم نتأخر طويلاً. تقدّم لي بمفرده من دون أهله ولا أقربائه. وحين سألني أبي عنه قلت له هو رجل مقطوع من شجرة. هذا أفضل لكي أعيش معه بمفردي من دون مشاكل وقيل وقال. وحين تم الزواج وسكنت في شقته، تناوبت عليّ نساء المحلّة باللوم والتحذير حين أغدو وأروح. وعرفتُ منهنَّ أنه "المسموم" الذي جرع سمَّ أمه وهو في بطنها!. في البداية لم أصدق وقلت ربما هذا بدافع الحسد. لكنني لن أحكي كثيراً عن المدة التي قضيتها لاحقاً بين الأطباء. بين مدة وأخرى أقع طريحة الفراش. الأطباء يؤكدون لي أنني سليمة البدن، لكنني لم أصدّق كلامهم. إنها اللامبالاة التي عادة يتكلم بها الطبيب، حين لا يتوصّل إلى معرفة سبب المرض. لكنني كنتُ أعرف السبب. هذا لأن سمّه صار يتسرب إلى جسدي بسبب ملامسته لي كالمفجوع كلّ ليلة. فهربتُ إلى أهلي، وحين شرحتُ لهم الحالة طالبوه بالطلاق. الغريب أنه لم يرفض ووافق مباشرة من دون اعتراض. وحين طلّقني عادت لي عافيتي منذ الليلة الأولى.

***

(الشيخ)

أستغفر الله من غضب الله. لم أكن أنوي التحدّث عن المسموم. أولاً لأنه عبد من عبيد الله. وثانياً أنا لم أر منه شيئاً مخالفاً. لكنني مرغم على الإنصات إلى المؤمنين المصلّين في المسجد. أذكر ذات ليلة بعد الصلاة جاءني رهط من المصلين المؤمنين جزاهم الله خيراً. قالوا لي أنهم لن يدخلوا المسجد مستقبلاً بسبب حضور المسموم إلى صلاة الجماعة. حتى بدأت أصدّق أن هذا الرجل ملعون أو فيه مسٌّ من شيطان. لهذا أشرتُ عليهم أن يقترحوا عليه ولا أستطيع أنا قول هذا الاقتراح له وجهاً لوجه. أن يقترحوا عليه أن يصلّي في آخر الصف. وأن يخصصوا له مكاناً منعزلاً يستطيع من خلاله الالتحاق بصلاة الجماعة. لكن الجمهور لم يوافق حتى على هذا المُقترح البسيط. بل قالوا لي بصوت غليظ (والوضوء أين يتوضأ؟.. ماذا لو تطاير بعض من ماء وضوئه علينا؟!.. الأفضل أن يصلّي في شقّته). ثمّ أنهم - أعني المصلّين- قد هددوني بقطع الصدقات عن المسجد إن لم أطرده. وبالفعل في إحدى الجمُع حين كان المؤذن يدعو الناس إلى الصلاة. اقفل الخادم باب الجامع في وجهه. وخاطبه من وراء الباب أنه غير مرغوب به. ومنذ ذلك اليوم لم نر المسموم غفر الله ذنبه وذنوبنا. لقد مضى ولم يعترض وهذه هداية من الله له اكرمنا بها حين وقانا شر الفتنة.

***

(الأم)

حين فتحتُ عينيّ في المشفى. كان زوجي واقفاً قربي مع طبيب وممرضتين. لم أزل أذكر الصداع في رأسي والألم في أطرافي والغثيان في معدتي. الطبيب أجرى لي عملية غسيل للمعدة وبعض الأدوية التي أرجعت لي وعيي ونشاطي. من قال أنني شربتُ سماً؟!. وأن السم قد تسرب إلى بدن جنيني حتى صاروا يطلقون عليه لقب المسموم؟!. ثم من قال أنه ليس ابن أبيه؟!!. هذه الإشاعات التي روّجتها بعض النسوة في الحي!!. كانت تلك النسوة الجاهلات ينظرن إليّ على أنني مختلّة العقل. هذا بسبب مقاطعتي لهنَّ بعد تلك النصائح البليدة أثناء مدّة حملي. (لا تنظري إلى شخص ميت وإلا سيكون أبنك حسوداً.. لا تنظري إلى أرنب لأنه سيكون مشروخ الشّفة.. لا تأكلي الجبن لأنه سيكون غبياً.. ادفني سرّته في مدرسة لكي يكون ذكياً.. احرقي الحرمل وارميه على عتبة الباب ليلة الجمعة). ومن هذه الترّهات التي صرن يحقدن عليّ بسبب سخريتي منهن حين سمعتُ بها. امرأة مثلي درست علم النفس وكانت مغرمة بالفلسفة، كيف تعيش في جوّ من التفاهة والضحالة كما يعشن؟!. وزوجي الذي أشاعوا عنه أنه رجل غريب الأطوار ومخبول. كان مثقفاً وكاتباً. لكنه لم يكن يتواجد كثيراً مع الآخرين. كان يعيش مثلي حالة من الاغتراب والعزلة. وبعد خلاف جرى بيني وبينه ساءت حالتي الصحية، ونقلوني على أثرها للمشفى. فلم أجد لاحقاً سوى الإشاعات. الإشاعات والترهات والأقاويل أفضل ما تتقنه هذه المدينة!!. تركت فيها ابني الشاب وحيداً. ابني الذي عاش حياته معنا لم يعترض ولم يبدُ عليه سوى الصمت والرّضا.

***

(المسموم)

في الحقيقة أنا لا أعرف السباحة. لم أدخل مسبحاً في حياتي. من كان يرضى بدخولي؟. يظنون أنني سألوّث ماء المسبح!!. ولم أنزل في يوم إلى النهر. كنتُ كلما اقتربت من جرف النهر، صرخ صيادو الأسماك والشرطة النهرية والناس الجالسون بي أن أتراجع عن النهر لكي لا أسقط فيه ويتلوّث ماؤه. كنتُ أرغب بالنزول إلى النهر لكي أغتسل. لكي أشعر أنني أكثر طهارة وسلامة. لكنني كنتُ أخشى هذا حفاظاً على مشاعر الآخرين. يظنُ الناس أنني رميتُ بنفسي إلى النهر لكي أقتلها وأستريح. وليس هذا ما حدث بالتأكيد. قتل النفس لا يستهويني وأكره التفكير به وسماع القصص المؤلمة عنه. الأمر وما فيه أنني لاحظت خلسة بعض الصبية يسبحون. يقفزون من الجرف إلى النهر فرحين مع تطاير أجزاء الماء. لا أعرف كيف داهمني ذلك الإحساس في أن أخلع ملابسي وأنزل إلى النهر. وبالفعل خلعتُ ملابسي ووضعتها على الجرف، وتقدمتُ بخطوات حذرة وأنا أجسُّ بطرف قدمي الماء. نزلتُ رويداً رويداً، فغطى الماء نصفي السفلي حتى بطني. وماهي إلا ثوان وإذا بالصبية يرمون الماء بأكفّهم صوب وجهي ويضحكون. لقد كنت أسمع أن النزول في مياه الأنهار تطهير من كل شيء. لقد لاحظت هذا وشعرت به. ضحكتُ عالياً ضحكات والماء يبلل وجهي. ولولا مجيء قارب صيد لمحته من بعيد، لكنتُ الآن في شقّتي سالماً. لقد أرعبني القارب ومن عليه من الصيّادين الذين يعرفونني بلا شك. ولو كان الأمر متوقفاً على قارب الصيد لابأس به. بل ما زاد في الأمر سوءاً أنني رأيتُ عدداً من الناس يقفون على الجسر وهم يتفرجون. وقارب شرطة نهرية جاء مسرعاً لكي يطرد الصبية من النهر خوفاً عليهم من الغرق. كان القارب يحمل العلم الوطني الذي يرفرف على ساريته، ورجال الشرطة بدت عليهم الشدّة. أصابتني رعدة خوف ولم تعد ساقاي تحملان جسمي، فأنزلتُ كامل بدني في الماء وأنا أحاول تجنّبهم كي لا يروني برفقة أولئك الصبية. الصبية الذين كنتُ أخطط للمجيء تارة أخرى للنهر والسباحة برفقتهم. ولستُ أدري هل خفتُ أن يعلم أصدقائي الجُدد بلقبي وما يحمله الناس اتجاهي؟. أم أنني خفتُ من الناس الذين أحدقوا بي من كل مكان؟!. مرَّ الوقت طويلاً وأنا في تلك الحالة. صرتُ أشربُ من الماء حتى امتلأت معدتي. اغلقتُ عينيّ وصرتُ أنصتُ لأصوات الصبية الذين فرّوا حين عرفوا بلا شك باقتراب دورية الشرطة. في حينها وأنا غائص في الماء، داهمني نعاس شديد وخدر صار يغزو أطرافي مع ثقل على كتفيّ. شعرتُ أن يداً تسحبني إلى اعماق النهر بخفّة. لقد كانت الحالة أشبه بسباحة روّاد الفضاء حين تنعدم الجاذبية.. لم أقاوم.. لم أعترض..

***

أنمار رحمة الله – قاص عراقي

 

في نصوص اليوم