نصوص أدبية

ناجي ظاهر: ساهر وباهر والطيف الطائر

خرقت حركة خفيفة جدًا الصمت الفظيع المخيّم على الطابق الرابع في العمارة الوحيدة في راس الجبل، فاهتزت الشقة رقم 7 اهتزازة خفيفة، ما دفع ساكنها المُزمن ساهر افندي، ان يضع كاس النبيذ المعتّق على المنضدة الخالية قبالته ويهرع إلى الباب ليفتحه على أوسع ما يمكن، وليطلّ برأسه الاشيب متفحّصًا المكان وناظرًا إلى أسفل الدرج.. منذ باغت ساهر.. ساكن تلك الشقة .. أخاه باهر، دون قصد بالطبع ورأى ذلك المنظر الساحر، وهو يحلم بأن تزوره تلك الفاتنة كما زارت أخاه وأن يفعل معها مثلما فعل، " فمن علته المال لا يستعصي باي من الأحوال". باهر شقيق ساهر يكبر أخاه بنحو الخمسة أعوام. وخلافا لأخيه الأعزب الابدي، خاض باهر غمار الحرب الزوجية وارتبط بامرأة أصغر منه بعشرين عامًا، طلبت الطلاق منه بعد سنوات قلائل من الزواج المُتعب المُضني لتتركه يعيش وحدته القاتلة بعد أن ذاق طعم العسل النسائي الفاتن.

عندما لم يرَ ساهر أي أثر لذاك الطيف الذي انتظره منذ ثلاثة أسابيع، وضع أذنه الذكية الحسّاسة قريبًا من حافة الحائط المُلاصق لشقته لعلّه يسمع حركة او نأمة أو أي شيء ينبئه بأن فاتنته تلك أتت وتوارت حتى تتأكد من أن أحدًا، خاصة طليقة باهر لا تتعقبها، لإدخالها مئة بالمئة إلى قفص الاتهام أولًا والقصاص ثانيًا. كلّ ما توقعه ساهر الافندي تفتّق عن قطة شقية قفزت من عتمة الادراج لتعلن له فقط أن الحياة ما زالت في المكان ولم تغادر.. كما اعتقد وتصوّر!!

عاد ساهر إلى داخل شقته كابية الأضواء مغلقًا بابها وراءه. اتخذ مقعده هناك قرب منضدته التاريخية الفارغة الخاوية وتابع شرب ما تبقى من كاس النبيذ الباسم الضاحك في حيرة. شرب ساهر كأسه ذاك. آه لو أن تلك الفاتنة جاءته في تلك اللحظة الوحيدة الفريدة، لشربا النبيذ معًا.. لعبثا.. بعدها معًا واندمجا روحًا، طيفا وجسدا في فضاء واحد موحّد.. وربما لفعلا مثلما فعل أخوه مع مساعدته. بعد كاس النبيذ الثالث وجد ساهر نفسه يتوجّه ممتطيا جناح حلمه المتوفّز إلى شقة أخيه باهر في الدور الأول من العمارة المشتركة البعيدة.. ويفتح الباب المفتوح أصلًا دون إحم أو دستور ليفاجأ بذاك المنظر الذي سيجعله لا ينام الليل ولا يعيش النهار وإنما يتحوّل إلى ريشة طائرة في رياح القلق لا تستقر إلا على حالة من القلق.. ألح عليه ذاك المنظر الفاتن كأنما هو يراه الآن بعين ذاكرته حقيقة لا خيالًا.. يدُ أخيه باهر تمتدّ الى جسد مساعدته شبه العاري تتحسّسه بكلّ ما في العالم من رقة ورغبة.. إنه يرى أخاه الآن بعين خياله يتحسّس ذاك الجسد الشاب.. الشارب الريّان.. تحسُّس أوراق الجوري لمساحات رحبة واسعة من العاج الرخو.. المالس.. الزلق.. الساحر. يشعر أخوه.. السكران برائحة المرأة به قريبًا منه، فينتهره لماذا لا تدّق الباب. ما هذه المباغتة غير السارة؟.. إذهب إلى الجحيم.. لا أريد أن أراك. حينها خرج ساهر من شقة أخيه العامرة بالمرأة ومساحاتها السكسية البيضاء اللدنة العاجية، وهو أشبه بسكران مسكون الخيال بالأمر العظيم. عندما خرج ساهر حينها من شقة أخيه لم يتمكّن من مغادرة المكان. وكان يشعر بشيطان الرغبة يحوّله إلى فراشة تدور حول النور المباغت، وفي دورات من الجنون والشهوة تلف وتدور. مشاعره هذه دفعته لابتكار تصرّف عبقري لم يكن ليخطر له على بال في حالاته الروتينية العادية. تلك الفكرة تمثّلت في انتحائه زاوية بعيدة عن العيون، هناك قريبًا من العمارة، وقد حرص في انتحائه ذاك على أن يكون مدخل العمارة في مرمى نظره وتحت عينه العطشة الظمئة. أما الهدف فقد أقره وأضمره في بطنه. حينها طال انتظاره وكان كلّما مضت ساعة.. يشعر بواحد من أمرين.. متنقلًا من أمر إلى الآخر. في الأمر يتخيل جسد أخيه وهو يتداخل في ذاك الجسد الريان وفي الامر الاخر يتصوّر نفسه مكان أخيه.. جسدًا.. وجها وعينًا.. أليس هما أخوان من أم وأب؟.. ألا يحق له هو الأخ الأصغر رغم العزوبية والشيخوخة أن يحظى بما حظي به ذاك المطلاق المزواج؟.. بعد انتظاره ذاك فوجئ ساهر أفندي بما لم يكن يتوقّعه، فقد انبعثت من العمارة صرخات وشتائم مقذعة.. من قاع الدست، تلاها خروج طليقة أخيه من باب العمارة وهو تسبّ طليقها.. باهر القذر.. وتلعن تلك المرأة مهددة بأنها ستنتقم منها شرّ انتقام، ومُتهمة إياها بأنها هي مَن تسبّبت في طلاقها ضياعها وتشتتها. وتتالت المفاجآت ليرى ساهر مساعدة أخيه ومحظيته الدافئة الحنون تخرج من باب العمارة وتنطلق مبتعدة عن العمارة مثل صاروخ تائه. عندها لحق بها قاطعًا الشارع تلو الشارع ومتوقعًا أن تمرّ من حيث نوى أن يجلس هو وكاس نبيذه النشوان. لم يمض سوى وقت حتى وقع ما برمج له وخطّط. ورأى تلك المُساعدة الفاتنة تتهادى في الشارع المحاذي تهادي عروس في أول جلوتها، فما كان منه إلا أن دنا منها مرحّبًا.. مسلّمًا متجاهلًا كلّ ما حصل ووقع، ومستشيرًا إياها بأن تأتي لمساعدته في بيته الدافئ الجميل مقابل عدد غير متوقّع من الأوراق النقدية. ما إن عرض عليها ذاك العرض حتى وعدته أن تزوره .. لكن بعد أن تهدأ الأمور وتنسى طليقة أخيه تلك الواقعة الدافعة للانتقام بكلّ ما فيه من ويلات وثبور وعظائم الأمور. لحظتها اخرج حافظة نقوده ونفحها مبلغًا على الحساب طالبًا منها أن تحدّد موعدًا لزيارته. فرفضت تحديد ذاك الموعد جراء تهديد طليقة أخيه لها. كان هذا قبل ثلاثة أسابيع من الانتظار والتوق ع والحلم.

*** واصل ساهر افندي الجلوس إلى منضدته وكاس نبيذه وهو ينتظر تلك المساعدة الجائعة حالمًا بقطوفها الدانية وخيرات جسدها الحانية.. شرب الكأس تلو الكأس إلى أن أثملته الخمرة.. فأسلم عينيه بأمر من ملك الكرى و.. نام.. مُعتقدًا أنه في نومه ذاك إنما يهرب من طيف مُلحّ، غير أن ما حدث، في الواقع.. الحقيقة والحلم، هو أنه فوجئ بذاك الطيف.. طيف مساعدة أخيه الكريمة المعطاءة.. يقتحم عليه خلوته.. مبتسمًا ضاحكًا وخالعًا ملابسه ابتداءً من الظاهر إلى الباطن.. مرورًا بالمخفي وبما لا تراه العين المجرّدة، فما كان منه إلا أن فعل مثلما فعلت، ليفاجأ بما لم يكن يتوقعه، لقد رأي ذاته يتمعن في بحيرة الجسد الحبيبة، بوجه آخر هو وجه أخيه باهر وبعين أخرى هي عين أخيه. بيد أن ما حدث فيما بعد كان مداهمة غريبة.. فقد فتح عينيه ليعود إلى واقعه المُرّ وفراغه القاتل وكأسه المُرّ السائل. لا يخرق ذلك الفراغ إلا تهديدات طليقة أخيه وإقسامها أنها لن تُهدّئ بالًا لمن خرّبت بيتها وشتت أحلامها. لقد فهم واعلم وأدرك الآن أن تلك المُساعدة العامرة بالرغبة.. النشوة والحلم لن تأتي اليه.. ولن تزوره ما دامت طليقة أخيه باهر.. تلاحقها وتتوعّدها على الطالع والنازل، ومع ذلك تابع الانتظار مردّدًا في الليالي وآناء النهارات المقولة الخالدة" مَن له نصيب في شيء سيناله إن عاجلًا وإن آجلًا".

***

قصة: ناجي ظاهر

 

في نصوص اليوم