نصوص أدبية

ناجي ظاهر: بيرو

الزمان: ساعات اول النهار.

المكان: شارع ما زال يتنفس أنسام الهزيع الاخير مِن الليلة المولّية.

الشارعُ خالٍ إلا من بعض السيارات المنطلقة مسرعة وكأنما هي هاربة.. فزعة.. من سياط الكورونا اللاسعة، وما تجرّه من حجر فظيع على مَن حلّت ضيفة ثقيلة في حلوقهم واجسادهم، ولولا عدد قليل من المارّة لخلا الشارع تمام الخلو. ولخيّل إلى القلة من العابرين والناظرين مِن وراء ستائر شبابيكهم المطلّة على الشارع الممتد، أن يوم الحشر قد حلّ أو أن الكورونا اللعينة أوشكت على وضع حدٍّ لهذه الحياة الفظّة الغليظة القلب القاسية.

بعد لحظات مِن الهدوء الحذر الصامت صمت أحياء أرادوا أن يعيشوا الحياة بكلّ ما زخرت به من حركة موّارة، تتوقّف سيارة جيب ليلية اللون.. ينزل منها رجل في أواسط العمر. يتوجّه نحو المقصف القريب من السيارة واضعًا يده على جَيب بنطاله الفضفاض.. خاكي اللون.. كمن يريد أن يشتري شيئًا طلبته النفس وتاقت إليه في ذلك الصباح الهادئ.. هدوء عاصفة توشك على الهبوب. ما إن يقترب الرجل من شباك المقصف، حتى يقفز كلب صغير ذو لونين أبيض واسود. يقترب الكلب من الرجل الواقف هناك، وما إن يصل إليه.. حتى يغيّر اتجاهه، فينطلق جاريًا في الشارع. عندها يُعيد الرجل جزدانه الشخصي الصغر إلى جيبه وسط صوت رجل مسنّ، يبدو أنه أبوه، وقد فتح باب السيارة المحاذي لمقعد سائق السيارة، ويهتف بالكلب:

-بيرو.. بيرو تعال.. تعال إلي.. تعال.

يترك الرجل موقعه قُبالة شباك المقصف، ويجري وراء بيرو، يجري وهو يتابع الانطلاقة المجنونة لبيرو في الشارع شبه الصامت،" الشكر لله.. أن الشارع يكاد يكون خاليًا من السيارات.. وإلا كنّا فقدنا بوري"، يقول لنفسه.

يتجمّد المنظر.. كأنما هو مشهد سينمائي.. توقف عن العرض. تتخذ الصورة أبعادًا متوتّرة قلقة: الرجل صاحب الكلب وأبوه يتوقّفان مذهولين على رصيف الشارع، في حين أن بيرويّ.. هما.. ينطلق في حالة شبه هستيرية، متقافزًا ما بين السيارات القليلة العابرة من الشارع.

الاب لابنه: لقد غافلني وقفز من شباك السيارة.

الابن: لا تهتم هو يحبنا.. سيعود إلينا.

الاب: ما كان علينا أن نعاقبه فنحجر عليه.. ماذا سنفعل الآن.. الله يستر.

الابن يُدني فمه من أذن والده، يهمس فيها ببعض الكلمات. يجري الابن في واحدة من ناحيتي الشارع، في حين يجري الاب في الناحية المقابلة. لقد بات بيرو الآن بينهما شبه محاصر، غير أن بيرو، ينطلق غير عابئ. عندما يُحكم الاثنان الحصار على بيرو الصغير، يركض هذا باتجاه صاحبه الرجل مرتدي البنطلون الخاكي، يركض باتجاهه.. يهتف الرجل:

-بيرو تعال .. تعال إليّ هنا. لن احجر عليك مرة أخرى.. تعال إلي.. وسوف أمنحك الحرية كاملة..

بيرو يقترب من صاحبه وسط تصفيق الاب واقترابه من ابنه، غير أن بيرو يغير اتجاهه هذه المرة بذكاء ويعود إلى انطلاقته في الشارع متقافزًا بين السيارات وكأنما هو وجد حريته المفقودة.

في الجانب الآخر الآمن من الشارع، تمضي اللحظات متنقلةً بين قلق حذر وتوتّر مترقّب. يبدو أن قلبيّ الرجلين، الاب وابنه، يخفقان على إيقاع أقدام بيرو الفزعة الراكضة. تطلّ حَيرةٌ شبهُ دامعة من عينيّ الاب:

-والان ماذا بإمكاننا أن نفعل؟

تنطلق من عينيّ الرجل، صاحب الكلب، نظرة غامضة.. تُشبه نظرة مَن وجد فكرةً طالما راوغته وتهرّبت منه فأتعبته. يجري الرجل باتجاه سيّارته سوداء اللون.. يفتح بابها بثقة، يتّخذ مجلسه وراء مِقود قيادتها، يحتضن المقود بثقة مَن وجد الحلّ المناسب لمُعضلة مصيرية، وينطلق باتجاه بيرو. بيرو يقفز جانبًا. يُخرج صاحبُه رأسه من نافذة سيارته يرسل نظرة واثقة إلى بيرو.. يتبادل الاثنان نظراتٍ حافلةً بالأمل.

-بيرو.. تعال.. سآخذك مشورًا رائعًا.. لن أحجر عليك مرةً اخرى.. سنشمّ الهواء معّا.

يقترب بيرو من السيارة و.. ما إن يفتح سائقُها بابها مطمئنًا إلى أن كلبه المحبوب الصغير عاد إلى رُشده، حتى يعود هذا إلى فقدان الرشد مرة أخرى، وينطلق في الشارع المُمتدّ، غير عابئ بالكورونا ومخاطرها القتّالة و.. رافضًا الانصياع لهُتافات صاحبه القلق وأبيه الحائر.. إنه يجري شاقًّا فضاء الشارع.. غير ملتفت إلى الوراء.. كأنما هو يُريد أن يُلقّن ملاحقيه درسًا حقيقيًا في الحُرّية.

***

قصة ناجي ظاهر

في نصوص اليوم