نصوص أدبية

نضال البدري: غرباء

تطوّرت المشادة بينهما، صفعَ وجهها بعد سبّ وشتيمة أمطرها بهما، ثم أشعل سيجارة تليها أخرى وعرقه يتصبب .. يهشم كل أفق ويترك في الضياء ألـف انكسار!؟ لعلها عتبات أرذل العمر/  الأفول .

 قائلاً: من أنت كي تحدثيني بهذه النبرة أيتها الحسناء الجاهلة، هل نسيت من أكون، وهل لزاماً عليّ أن أذكّرك بذلك كل يوم!؟ أين كلامك قبل زواجنا عن الشخصية القوية التي أمتلك، والحكمة، والوقار، والشعر الذي خالطه الشيب، وكم كان يسحرك!! كلّ ذلك تلاشى أمامك  في رأيك ؟؟

سارت أمامه حاملة بيدها حقيبة ثيابها متسلحة بعنادها وماضيه في قرارها بالمغادرة .

نظر إليها بعد أن أخذ نفَساً عميقاً، وقد هدأت ثورته:

- إلى أين ستذهبين في هذا الوقت المتأخّر من الليل!

ذاهبة لمنزل أمــــي .

-انسي كلّ ما قلت، أشعر بتعبٍ شديد، لو أحببتِ يمكنك أن تؤجلي قرارك التعسفي هذا الى الغد، أنا من سيقوم بإيصالك دعيني أستريح الليلة، أشعر بألم يشقّ عٌباب  صدري.

- لا.. لا أستطيع.

- كما تشائين عزيزتي.. رافقتك السلامة!

- أكيد أفضل من مرافقتك لي، فماذا يضير الشاة بعد سلخها.

تكسّرت صورته الأنيقة أمامها، قالت محدثةً نفسها: ستكون لدي إرادتك نفسها التي كنت تفخر بها، وسيكون لي أشياء أخرى، بل سيكون لدي كلّ شيء.. سأعتلي المنبر الذي اعتليت وسأهتف كبطل ثائر ضدّ عدوه، لكن ثورتي أنا تختلف، لأنها ستكون ضدّك وضدّ جبروتك وتجنيك عليّ، سألهب الشوق داخلك، وسأجعلك تنظر من ثقب الباب ترقب عودتي. احتضن شهاداتك ومنجزاتك، ونم على صوت شخيرك أيّها الأسد الهرم.

غادرت متكئة على عنادها  مكابرة والغصّة تخنقها وتثقل صدرها الذي راح يرتفع وينخفض سريعاً دون إرادة منها، بكت بحرقة فرت الدمعة  من مقلتيها و سالت دون توقف رسمت  خطوطاً داكنة بلون كحلها الأسود الذي يشبه تلك الليلة السوداء التي غاب فيها القمر.

المكان بعيد في أقصى أطراف المدينة حيث تسكن أمّها، سائقو مركبات الأجرة جميعهم رفض الذهاب، والبعض منهم اعتذر متحججاً بأن الطرق الى هناك غير سالكة، ولا يمكنهم المرور بمركباتهم في هذا الوقت المتأخر من الليل، مع أن المساء لم ينتصف بعد!

الشوارع بدأت تخلو من المارة ، ساد الصمت وخف الضجيج تلفتُ أنظرٌ  يميناً ويساراً باضطراب وقلق سرى خوفاً في داخلي، اضطرب واختلط مع صوت نباح كلاب قادمة من بعيد، لم تكن الشجرة التي أتكئ عليها تخفف عني ذلك الشعور، بل كانت تخيفني وكأنها تهمس في أذني: ارحلي.. لا يمكن لأغصاني الميتة أن تكون لك  رداء يحميك، والعصافير نأتْ أن تغرد ليلاً، اسألي الليل عني.

هطل الظلام مقبلاً نحوي حاملاً سحباً حبلى بمشاهد خوف، حاولتُ أن ألملم خوفي، فوضعت كفي وسددت بها أذني، لكن صوت تلك الشجرة  مازال نافذا إليه يثرثر ودون توقف: غادري قبل أن تأكلك كلاب الشارع الذي بات خالياً أمامها، وستصبح هي سيدة الموقف.

من حسن حظي لم يدم ذلك الخوف طويلاً، إذ رأيت سيارة أجرة قادمة وقد أثار صوت منبهها  خوف تلك الكلاب وأخرس صوت نباحها بعد أن أخذت تقترب بحذر وبطء شديدين، مما تسبب ذلك في شرودها وتراجعها الى الوراء.

أشرت إلى السائق، فتوقف على الفور، اقتربتُ من السيارة ودنوت برأسي نحوه أحدثه، فعصفتْ بأنفي رائحة خمر أفاقتني من شرودي وخوفي، تراجعتُ خطوتين الى الخلف!! ترددتُ قليلاً وجلتُ بنظري في المكان حولي، قلتُ في سرّي: لابد من أن أغادر هذا المكان الموحش حالاً. سألت السائق الذهاب والأجرة مقابل أن يوصلني، صمت قليلاً، ثم قال بلسان ثقيل وكأنه يلوك قطعة خبز يابسة: المكان بعيد جداً، والطرق غير معبدة هناك... طلب مبلغاً كبيراً.

موافقة، سأدفع لك ما تريد، ضع هذه الحقيبة في الصندوق وانطلق فقد تأخّر الوقت كثيراً وأتعبني الانتظار.

بعد أن سار مسافة قصيرة، مدّ يده وأخذ يقلّب موجات المذياع وقنواته الأثيرة، شعرتُ بأنه يبحث عن موجة محددة، توقف عن البحث على صوت تصفيق حادّ يخرج من المذياع يُنبئ بأن هناك ستارة كبيرة سترفع، ثم بدأ صوت الموسيقى يملأ المكان ويشغل مقاعد السيارة الفارغة. راح يضرب ضرباً خفيفاً بيده على المقود وهو يقول، "يا سلام على كوكب الشرق"، وراح يدندن معها: هو صحيح الهوى غلاب.. ثم سألني: هل تحبيّن أم كلثوم؟

نعم أحبّها أكيد، سدّد نظرة نحوي من خلال مرآة السيارة قائلاً: لماذا خرجت في هذا الوقت المتأخر! أنت امرأة شابة وجميلة، ألا تخافين من الليل ووحشته. لا، لمَ الخوف، أكملْ طريقك لو سمحت، لا مزاج لدي للحديث. ضغط على دوّاسة البنزين قائلاً: كما تشائين!! وراح يدندن كلمات الأغنية من جديد. يبدو أن الرجال جميعهم تعجبهم.

تلك العبارة، هل تعرفين بأني السائق الوحيد الذي يعمل في مثل هذا الوقت المتأخر!! أنا هارب من المنزل وجو المناكدة الذي تصطنعه زوجتي وحين عودتي تكون زوجتي قد نامت. أتعلمين! ركلت بقدميها أبسط حقوقي، لم أعد أشعر معها بشيء، (الأسوأ من شعور الإنسان بالسعادة أو الحزن أن لا يشعر بشيء)، هل تعلمين أني حين استيقظ صباحاً أجدها قد أفرغت كل ما في جيبي من نقود. ثم حول نظرة نحوي، قائلاً: يبدو أني قد ثرثرت كثيراً!؟. ضغط على دواسة البنزين، فانطلقت السيارة تمرّ بسرعة كبيرة من فوق المطبات دون اكتراث. المسافة شاقة وطويلة، أعمدة الإنارة بدأت تختفي من وسط الشارع، فجأة توقفت السيارة تزامناً مع ارتفاع صوت الفرامل التي شوهت وجه الإسفلت. لا أعلم لماذا توقف وما السبب!؟ ثم رأيت من بعيد ظلاً لرجلين اقتربا بسرعة فائقة من السيارة، وأخذا يدوران حولها، وراحا يرتفعان إلى الأعلى ثم يهبطان بخفة كبيرة، اقتربا وقد أدنيا وجهيهما من زجاج النافذة، كان أحدهما يُخرج لسانه كثعبان يتلوى، أثار فزعي كثيراً، أظنّ أن وجهي ووجه السائق قد بدا لهما بوضوح كبير... اعتراني خوف شديد وارتباك، كدت أستفرغ ما في معدتي.

مَن هؤلاء؟ وما الذي يحدث؟ قل لي أرجوك!؟ ليتني لم أغادر منزلي وأركب مع سكير ثمل مثلك، ردّ بكل برود: لا علمَ لي، حتى إني لا أراهما بوضوح، لا تخافي، الآن سنعرف كل شيء.

اقترب أحدهما، قائلاً: هيا ترجّلا من السيارة، وإلا سأفرغ هذا المسدس في رأسيكما.

- ردّ السائق: كيف ذلك؟ ماذا تقول! أنت حتماً تمزح، هيا.. اركبا سأوصلكما في طريقي.

- أنا جادّ! انزلا على الفور..

- ماذا؟ ثم أعاد عليه العبارة نفسها: أنت تمزح!

- نحن قاطعا طريق (سلابة)، انفدا بجلديكما، ونفّذا ما أقول، هيا لا تؤخرنا.

- هههههه.. أنت تمزح (سلابة)!؟

- نعم (سلابة)! هل تودّ أن أفجّر رأس تلك الحلوة برصاصة كي تتأكد بنفسك.

- أطلق ضحكة أخرى،  قائلاً: (أقسم أنكما سلابة).

- اركبا، سأقصّ عليكما حكايتي، هيا...

- ألا تفهم؟ ألا ترى... ألم تفكّر ماذا نفعل وسط الطريق ووسط هذا الظلام،  أو تظننا!!... ثم توقف عن الكلام.

- أقسم بشرفي أنتما رجلان طيّبان.

أماط اللصّ اللثام عن وجهه، كان لون بشرته أشبه بالموت، ثم قال بصوت أجشّ أسرى قشعريرة في جسدي: لا طيّب بيننا سواك.. اخرج من داخل السيارة.. وقلِّد لنا بصوت عالٍ كيف ينهق الحمار، وسندعك تذهب. نكزتُه من الخلف بيدي أتوسله بصوت منخفض: هيا اخرج بسرعة، انهق لهما، انهق أرجوك..

خرج على الفور، وأخذ ينهق دون توقف، وهما يدوران حوله ويضحكان. توقف الصوت فجأة، فالتفتُّ فلم أجدهما، لقد اختفيا في عُباب الظلام.

- كفى نهيقاً.. اصمت، لقد رحلا. هيا عُدْ بي بسرعة من حيث أتيت وسأعطيك ما تطلب.

***

القاصة / نضال البدري

العراق

 

في نصوص اليوم