نصوص أدبية
جودت العاني: على ضفاف نهر الدانوب ..
ما ان اغلق مزلاج الباب حتى وجد نفسه في الخارج، والعالم امامه يزدحم بالحركة التي تبدو احياناً تعيش على إيقاع متناغم، واحياناً تسود فيه العشوائية .. كما يزدحم بكتل آدمية تتحرك وحركتها تشكل عوالم بعضها معروف في الشكل ومألوف بكل تفاصيله عدا دواخلها المبهمة، فضلاً عن الرؤوس التي يعتليها شعر كثيف وتتقدمها عيون ترصد الحركات وتكتفي بنظرات لا احد يعرف مغزاها وأفواه تثرثر وتقهقه وبعضها يبدو لا يعرف غير الصمت والشك .. هذه الامرأة ربما تكون مومساً، وربما يكون هذا الرجل مخبولاً وذاك متصابياً أو نزقا، فيما تتوزع العقول في الرؤوس بين صغير العقل وبين لا شأن له بعقله ويستعيض بغرائزه التي تدله على حاجاته ..
هو ذا المشهد الذي توزع امامه في تلك الأمسية وهو يغادر شقته المطلة على نهر الدانوب، ذلك النهر الأزلي الذي يتسلل عبر مرتفعات (كالمبيرغ) وسفوح غاباتها الرائعه.
لم يستطع تحديد وجهته، نحو المدينة الصغيرة المسكونة بالسكارى أم نحو النهر؟ سحبته قدماه صوب النهر لكي يحصل على شيئ من الهدوء .. وحين بلغ حافة الغابة حيث المنحدر، اطل على جرف النهر وكان صيادان يعتمران قبعتين ويلبسان بنطالين اعتاد صيادوا الاسماك ارتدائها .
قرر الجلوس بالقرب من احدهما على صخرة بعد ان أدى لهما التحية .. وبكل احترام حياه الصيادان برفع قبعتيهما .
انتظر، حتى اصطاد احدهما سمكة، وبعد أن انتزع الصنارة من فمها سال الدم قانياً .. عندها اخرج الصياد مقياساً فقاس السمكة ثم أعادها إلى الماء .
قال له بفضول، لماذا اعدتها الى الماء؟
اجابه الصياد بإبتسامة عريضة .. من أي بلاد انت ايها السيد؟
انا من العراق،
نعم، بلاد ما بين النهرين، وحضارات بابل وأكد وأشور وسومر.
أجيبك على سؤالك، لدينا قانون يحذر صيد السمك الصغير إذا كان طوله خمسة عشر سنتمترا ويجب ارجاع السمكة الى الماء .
فرد عليه، ولكن لا احد يراك، وتستطبع ان تأخذها معك الى البيت.!!
ابتسم الصياد وزميله، وقال هكذا نحن نطبق القوانين .. وتسائل، هل في بلادك شيئ من هذا؟
سكت، واخذ يعبث بتراب الأرض .
ولم يكرر الصياد السؤال .!!
***
قصة قصيرة جداً ....
د. جودت صالح
ضفة نهر الدانوب - فيينا
2/ 7/2014