نصوص أدبية
قصي عسكر: هو الذي منحني يدا (2)
رواية قصيرة
بعض من سيرة أخي الخطاط أسعد
***
العتبة السادسة: السجن يسبق
السجن قبل أيّ عذاب
أظنك لم تكن محقّا حين اخترت الوزارة
أنت فنان، موهبتك أكبر من أيّ منصب وإن يكن عصرنا لا يراك من ذوي المواهب
فاخرج مادمت اخترت الوزارة أخرج - بعد أن عشت مرفها- متخفيا
بعدة صور:
مرة بهيئة رجل أعجمي
ومرة بشكل شحاذ
وأخرى تصبح امرأة منقبة
وثالثة
ورابعة
ومازال أمير الأمراء محمد بن رائق يطاردك حتى أودعك السجن
الفصل السادس: أنا وسيادة العقيد
هشام محمد مجيد حمادي
العقيد هشام... اسم محفور في ذاكرتي
بعد سنة من اعتكافي في البيت دخلت العسكريّة وكانت الحرب قد اندلعت
كنت خلال تلك السنة أمارس هوايتي: الخط بيدي اليمنى السليمة أطرد رتابة الزمن وفي الجندية تشكلت لجنة طبية فأقرّت عوقي
وعند أطراف مدينة البصرة وسط الصحراء في مركز الدريهمية (6) عشت مع المتدربين.. أيام لابد منها..
في بداية حياتك العسكرية سواء أنت سليم أم معاق يقذف بك مع من يتدربون على السلاح. كنت أمارس الخط وسيادة العقيد آمر المركز يعجب بي وإذ حل عيد الجيش سأل بعض الحنود والمراتب الآخرى عمن بستطيع أن يلقي كلمة بالمناسبة ، فتطوعت. كنت من قبل سمعت عن جدي الشيخ عسكر (7) كيف دخل الجيش وانتقل مع الفوج إلى بنجوين.. فأعجب بي سيادة العقيد وجعلني خطاط المركز ومسؤولا في الرقابة والإعلام.. وفي اليوم ذاته جاءنا وفد عسكري. يتحدّث عن الحرب والشجاعة والجبهة الشرقيّة وحالما انتهى الرمز الكبير من مهمته، وفُتِح باب النقاش استأذن جندي ساذج أو يبدو ساذجا ونهض يوجّه كلامه إلى الضيف الرمز الكبير كان يستشهد بقول الرمز الأكبر السيد الرئيس: سيدي العميد الرئيس صدام حسين حفظه الله يقول العراقي بعشرة فرس مجوس، ومادمنا كذلك نحتاج إلى طعام كاف وهو لا يكفينا يذهب أحسنه إلى المراتب العليا
عمّ سكوت واستحسن الضباط شجاعة الجندي، هي الحرب والساكت عن الحق شيطان أخرس، ولا بدّ أن يكون هناك طعام يكفي جنديا يعادل عشرة من جنود العدوّ، ولم أقرأ شيئا على وجه سيادة العقيد هشام
ملامح طيبة
ابتسامة استحسان
هزّة رأس خفيفة
همسة مع الضيف الرمز
كأن الأمر انتهى بهذه الصورة
أمّا عند التدريب اليومي للرمي الحقيقي فلم ينته حلم الطعام بعد
العميد يقف مع كل صلية يرشقها الجنود المتدرّبون على شواخص خططتُ رموزها وأشكالها بيدي السليمة:
يراقب
ينظر بطرف عين
أحيانا يوجّه بندقيته فوق رأس الجنود
وفي إحدى الرميات رأينا الجندي الذي اعترض على الطعام يسبح بدمه.. رصاصة اخترقت رأسه: رصاصة خاطئة
ظلت طريقها
هل قتله العقيد انتقاما لاعتراضه؟...
جاءت كلمة لجنة التحقيق التي شكلتها الفرقة: أن العقيد هشام صوّب البندقيه في الهواء فاصدمت الرصاصة ببقايا حجر انفلق من صخرة عُدّت هدفا للرمي فغيرت الرصاصة اتجاهها لتصيب الجندي...
شعرت بنوع من الفزع والقرف
لقد اعجبت بالعقيد هشام ثمّ بعد الحادث لم أعد أميّز بين الحقد والكراهية فأنا نفسي تعرضت لمجلس تحقيق
مع ذلك بقيت أستند إلى سيادة العقيد القاتل البرئ
إذ بعد ختام الرمي جاء نقيب إلى مركز التدريب وقرأ بعض الأسماء.. كان اسمي من بين هؤلاء الذين يتوجهون بسيارات الشحن إلى الجبهة. بعضهم يقفز من شاحنات (سكاينا) المكشوفة منتصف الطريق متسللا إلى أهله، وبعض الأكراد يغادرون نحو كردستان.. كانت الحرب في بدايتها والجيش العراقي دخل عبادان وااندفع في أراضي إيران. من بقبض عليه هاربا يعاد ويسجن بضعة أيام. ولم يكن قانون إعدام الهارب من الجبهة قد صدر بعد.. وقد اغتنمت عند الفجر كثافة الضباب ففي تلك الأيام فاجأ البصرة ضباب كثيف ساعة الفجر خنق الأنفاس صعدت السيارة بعد أن قرأ النقيب اسمي وتسللت ثانية إلى مقر السريّة.
لم يعد الضابط الذي رافق الحافلة
لكن اللغط حولي ظهر بشكل يثير الريبة حين بقيت نسخة من أسماء المدعوين إلى القتال في مكتب الفوج فتشكلت لجنة تحقيق يرأسها ملازم أول استدعاني
قلت بين الخوف والشك:
سيدي أنا لا أعرف الرمي لا أقدر أن أمسك البندقية بكلتا يديّ... يدي الييسرى العاطلة بدرجة كبيرة
أنت غير مسلح؟
نعم
لكن قد يحتاجونك في خطوط القتال لأعمال خفيفة. تنقل بريدا ترسل طعاما...
فقلت وقد رأيت ليونته:
أنا مستنعد لذلك مستعد لأي أمر عسكري حتى لو كنت لا أقدر على الرمي لكنّ السيد العقيد استدعاني إلى السرية معه ولا أستطيع المغادرة إلا بإذنه
فهزّ الملازم الأول رأسه وصفن لحظات وأمرني بالخروج على أمل أن يستدعيني في وقت آخر
ولم أسمع أيّ خبر بعد!
العتبة السابعة: صحيفة ضاعت
أتدري لم ستدعاك خليفة المسلمين؟
ستكتب للدولة تصبح موظفا..
ستة دنانير كل شهر
ولك أجر على سفرك ورفقتك للوفود
وستسافر مع الوفد لتكتب بيدك الذهبية بنود معاهدة سلام بيننا وبين الروم
ولم تدر أن تلك المعاهدة التي تكتبها ستبهر الروم بخطها البهي الجميل
تحفة فنية سحرتهم فوضعوها في مكان عال في كنيستهم المقدسة
ولم تدر لسوء حظك أن محمدا الفاتح سيمزق تحتفتك الجميلة حين دخل القسطنطينية
الفصل السابع: الرحلة إلى الصويرة
بعد فترة الدريهمية نقلني العقيد هشام إلى مركز تدريب الصويرة هناك عملت في مقر التوجيه السياسي في معسكر الكوت الذي بدا أشبه بقلعة مغلقة كبيرة، غرفة التوجيه السياسي
تجاورها غرفة المخابرات، بين الغرفتين من الخلف برميل كبير ناره دائمة التوقد، على حسب الأوامر، نلقي فيه أوراقا مهمة ووثائق تبقى تخص المعسكر وحده.
هل أسميها النار الأبدية التي تلتهم الأوراق؟
ثمّة عن مسافة غير بعيدة غرفة تتجمع فيها جثامين الشهداء القادمة من المعركة قبل أن تبعث إلى ذويهم، كانت الروائح الكريهة تصدر عن الغرفة وتزداد أو تنقص مع شدة الريح وخفوتها.
غثيان
نفور
اشمئزاز
وليس بالإمكان أن يبدو ذلك على وجه أيّ منا
كان العقيد (أدهم محمود شكر). آمر المعسكر يقال إنه في الأصل نائب ضابط اقتحم قصر عبد الرحمن عارف يوم الانقلاب فَرُقِّيَ إلى رتبة عقيد
ربما أصدق أو لا إن العقيد أدهم. طيب القلب إلى حدّ بعيد دائما يقف في صفّ الجندي لا الضابط يُؤمن بمقولة اخترعها لنفسه أو اختُرِعَتْ له إنّ الجنديّ لا حول له ولا قوّة
وربما لا أصدّق أني في قسم الإعلام.. التوجيه السياسي
والذي يثير في نفسي الريبة أكثر أن (شريف عبد الحالق) الجندي المسؤول في المخابرات حيث غرفته جنب غرفتي يحب عبد الكريم قاسم ويمدحه على الرغم من أنّه من أهل الأعظميّة
كنت أخط وأعمل في الرقابة العسكرية
أنا من مواليد 1959 ولا أتذكر عهد غبد الكريم
قلت ذلك لكي أتحاشاه فقد يكون افتعل الموضوع ليستدرجني:
أنا أيضا ولدت عام 1959 وسمعت من أبي عن عبد الكريم قاسم
طيب أنت من الأعظمية يا شريف والمعروف عنهم أنهم لا يحبونه
أبي كان كذلك لايحبه لكن في أحد الأيام وقف أمام دكانه كان في سوق السراي الوقت فجر والباب ثقيل انحنى على الباب ليرفعه فساعده رجل من الشارع وعندما التفت ليشكره وجده عبد الكريم منذ ذلك اليوم تحول كرهه إلى حب.
بين مصدق ومكذب. شاك.. كأني في ريب أمام أسطورة وددت لو كان وقت الفجر حينها ضباب مثل ضباب ساعدني ذات يوم على التسلل من الشاحنة قلت بتساؤل:
ما الذي ذكرك الآن بتلك الحكاية؟
إنها الحرب..
تسللت روائح جديدة إلى أنوفنا من مستودع جثث الشهداء فتحاملنا على أنفسنا من غير امتعاض.
قلت: الرحمة لهم
وواصل:
الحرب ذكرتني عبد الكريم قاسم كاد يدخل في حرب مع إيران وجعلهم يتراجعون والرئيس صدام حقق أمنية سلفه فدخل الحرب!
عجبت من هذه الحكاية الغريبة التي أثارت تساؤلي وفضولي وجعلتني أشكّ كثيرا في نية الجندي شريف. أو سلامة عقله.. الحكومة خلال الحرب لاتحاسب على ذكر الجمهوريين الأوائل فالإعلام مشغول الآن بالحرب والتنظيم الديني الجديد الذي وضعته الدولة في حسابها بعد ثورة إيران والحرب.. لقد أكملت كلمتي أو المحاضرة التي ألقيها على حشد من الجنود القادمين إلى المعسكر من مراكز التدريب
كنت أتهيّؤ لكتابة بعض رؤوس الأقلام لكلمة عن الجيش سوف ألقيها على بعض الجنود الجدد. استفدت من بعض الكتب العسكرية المهملة فوق رفّ خشبيّ، قبل أن اغادر اقتحم (شريف عبد الخالق) غرفتي وحين تأكد من خلو المكان أخرج ورقة كان قد أخفاها في جيبه.
ماذا عندك؟
الآن وصل البريد إلى غرفتنا.
ليس عندي وقت فالسيد آمر المعسكر نفسه سيشرف على أول لقاء لي مع الجنود الجدد.
اسمع هل عندك أخ معارض في الخارج؟
نعم
ذهول
صدمة
غيبوبة
مصيبة
لا أدري
لا وقت لدي للتفكير
عندي أخ يعمل في المغرب في التدريس بعقد عمل بعث لنا صورة منه قبل الحرب
كان عليك أن تخبرهم بذلك قبل أن ينسبوك إلى العمل في التوجيه السياسي.
بسط أمامي الكتاب فقرأت المصيبة التي تنذر بالويل.. الإشارة الموجزة تقول أن لي أخا مجرما هاربا يعمل مع المعارضة في الخارج فكيف ينتسب جندي مثلي لشعبة التوجيه السياسي
وكان الخوف يدبّ في صدري وعروقي ويزداد مثل تلك الروائح الكريهة التي تنبثق من غرفة الموتى:
مالعمل أنجدني؟
لاتخف.. اكتب إلى مسؤلك الآن فورا.... أنك في التوجيه السياسي وإن لك أخا يعمل في الخارج
وبسرعة البرق رحت أخطّ على ورقة ما أملاه عليّ الخوف وتذكرت كما لو أني عثرت على طوق نجاة:
أظن أخي بعث لنا بصورة من عقد العمل
الآن لا تضيع الوقت اذهب للضابط
خرجت إلى غرفة الضابط مسؤولي المباشر وقدمت له الطلب ثم عدت إلى الغرفة ألتقط أنفاسي التي تهدجت لا بسبب الروائح الكريهة الهابة من غرفة الموتى الشهداء بل من القلق. لقد اطمأنت نفسي قليلا ، إن رفضوا وجودي فسوف يبعثوني إلى المطبخ هنا في المعسكر أو لمطبخ معسكر آخر.
وعلى الرغم من القلق وبعض الخوف فقد ألقيت محاضرتي عن الجيش والالتزام واحترام الضباط. كان العقيد أدهم يقف عن بعد ويستمع ، وحالما انفض الجنود، بعث مراسله إليّ فدخلت عليه ووقفت بكل احترام، رفع رأسه إليّ علت وجهه ابتسامة وقال:
رائعة محاضرتك.
سيدي أنا لي أصل في الجيش فقد كان جدّي أوّل إمام فيه زمن تشكيل لواء موسى الكاظم وعندنا في البيت صورتان قديمتان له.
أنت من البصرة؟
نعم من التنومة وقد تركت أهلي هناك ولا أعرف هل نزحوا إلى مكان آخر أم مازالوا في البيت.
فهز رأسه وقال:
عشرة أيام إجازة ليأتوا معك وليسكنوا في بيت من البيوت الخاصة بالنواب الضباط حتى تجدوا بيتا في المدينة
شكرا ياسيدي لفضلك لكن لدي شئ أود أن أقوله لسيادتك
نعم؟
أنا لدي أخ يعمل في المغرب في مجال التعليم.
هل أخبرت مسؤولك
نعم
مادام يعمل بعقد عمل فهذا أمر طبيعي
عندئذ تنفست الصعداء
وخرجت
وحين عدت بعد عشرة أيام ومعي أهلي أبي وأمي
وأختاي
وأخي الأوسط
ومعي أيضا صورة لعقد عمل أجراه أخي مع وزارة التعليم المغربية وبعثه لنا لنطمئن عليه، لكنّي حسبت من قبلُ حساب ضابط مخابرات المعسكر الملازم الأول (وداع عبد علي) الذي له اليد الطولى في المعسكر وقد صدق حدسي فقد استدعاني وسألني عن أخي فأجبته أني كتبت بالأمر إلى ضابط السرية المسؤول عني وإن معي صورة من عقد عمل أخي في المغرب
حقا
أنقذني الأعظمي الجندي شريف عبد الخالق
فلم أعد أشك فيه.
العتبة الثامنة: موت
ياسيدي
أنت هارب
يطمئنك أمير الأمراء محمد بن رائق
يمكن أن تلتمس سماحة الخليفة
وطيبته
وعفوه
وقد حصلت لك على كل ذلك
أنت الفنان الأكثر شهرة في دار الخلافة التي تمتد من الصين إلى المجيط
قلمك
وفنك
إبداعك وصيتك
ثمّ
ذهبت تسعى لتكون حرا
تطلق يديك في كل مكان وقتما تشاء
فدخلت دهليزا تعمدوا أن يعمّه الظلام
فلا تدري فيه أين تسير
وفاجؤوك
داهموك في الظلام
وقادوك إلى حتفك
الفصل الثامن: حياة
قد يقتل الضجرَ شريطٌ لأغنية ما وربما أغنية فاضحة
أغاني أم كلثوم
عبد الحليم حافظ
فريد الأطرش
وردة الجزائرية.. ياس خضر.. الهدل.. طالعة من بيت أبوها.. سيرة الحب...
شريط غناء بذئ بصوت يوسف عمر عن العاهرات واللمجي والقوادة
كان كل جندي قبل أن يساق إلى القتال يترك ماجلبه من أشرطة في الغرفة لعلها تجعله ينسى ولو دقائق روائح جثث من ماتوا وقد يرثي لنا الهواء فيغير بضع ساعات مسيره باتجاه آخر غير مكان غرفتنا.
لم أكن أرغب في الغناء لكني كنت مضطرا إلى أن أجلس ساعات لأفحص كل شريط فأسمع مافيه كي أتاكّد مما فيه
ولو كنت قادرا على الرمي لاستدعيتُ إلى الجبهة بعد شهر أو شهرين من عملي في التوجيه السياسي، هي سيرة من كان قبلي، ولا مفرّ منها إلا أن تنتهي الحرب وهو احتمال بعيد، وقد أجد نفسي الوحيد الذي لم يترك شريطا في الصندوق الجاثم على الدكة عن اليمين من رف الكتب!
وفي لحظة تأمل وسكون. جاءتني إحدى مفارز الفرقة بشاب نحيف.. عيناه تحومان في المكان مثل أرنب تطارده كلاب مسعورة... كان أفراد المفارز التي تعترض الطرقات وتفتش العابرين على الطريق السريع وفي الطرق الفرعية من أنشط وأشرس الجنود. مُنِحوا صلاحيات واسعة ، كان يحق لهم بحجة الحرب تنفيذ حكم الإعدام بأيّ فرد يشكون فيه..
يقلب عينيه وينظر إلى الأرض
ينظر إلي يتطلع إلى جدران الغرفة مرعوبا ثم تهبط عيناه إلى حذائه
رمى العريف الكيس على المنضدة وقال بخشونة وصلف
استلم إفحص الأشرطة. أي شريط فيه شبهة يعدم صاحبه ، ثم مسك جندي آخر الشاب المرعوب من ذراعه إلى نقطة الحراسة. أمرهم أن يلقووه في الحجز حتى أفرغ من سماع الأشرطة. فتحت الكيس وإذا بي أجد خمسة عشر شريطا عليها أسماء أم كلثوم... فريد الأطرش ناظم الغزالي.. فاضل عواد.. فحصت على عجالة أكثر من عشرة أشرطة. كان الجندي المساعد لي في دورة تدريبية وأحتاج وحدي إلى وقت.. خمسة عشر شريطا تعني جلوسي أمام جهاز التسجيل يوما كاملا. تبدو أنها أغان ولفتت في لحظة التأمّل تلك أشرطة أربعة خط عليها كلمة منوعات، وفي أعلى كلّ شريط نقطة سوداء خافتة لا تلفت النظر. دسست أحدها في جهاز التسجيل فكانت المفاجأة
صوت رجل دين عراقي هارب إلى إيران
استمعت دقائق..
ووضعت الشريط الآخر ففوجئت بصوت مغن عراقي شيوعي يترنم بأغان شيوعية
الشريط الثالث كان لمجموعة مغنين يسارية تتخذ من سورية مقرا لها
الرابع حديث ابن الرافدين باللهجة العامية العراقية **من إذاعة إسرائيل
هل صاحب تلك الأشرطة مجنون؟
أهو من المعارضة. أم مجرد مغامر يحمل معه هلاكه فلا تدري أهو من جماعة سورية أم شيوعي أم متدين.
يهودي؟
أراه أقرب للمعتوه
الإصغاء إلى إذاعتي طهران ودمشق جريمة يُعاقب عليها زمن الحرب بالموت فكيف بمارق يتجول بأشرطة تناهض الدولة ؟
هاي هيه القصة اتفضلوا اسمعوها.. ابن الرافدين... لاح لي أن الشاب الذي لم أعرف اسمه كان يقرأ موته في غرفتي.. مصيبة أقف عاجزا أمامها ولو كان معي الجندي الآخر لما قدرت على أن أفعل شيئا.. جمعت الأشرطة المشبوهة، ولففتها في كيس قديم.. ثمّ خرجت إلى المحرقة ذات النار الأزلية
كأني لص
أتلفت
لم يرني أحد
ألسنة النار اشتعلت بالاشرطة
لاكتها مثل أفعى تبتلع فأرا
تنفست الصعداء وعدت إلى الغرفة، لم تكن وقتها روائح موت تنبثق.. فقد تكون حاوية الموت خاوية تنتظر جثثا أخرى.. قصدت كدس الأشرطة التي تركها الجنود الذاهبون إلى الجبهة.. استللت أربعة بدل التي أحرقتها، ومن الغريب أن أحد الأشرطة كان أغنية اللمبجي(البذيئة) ليوسف عمر حملت الأشرطة إلى الضابط المسؤول. وكنت أنطق كأني أزيح ثقلا عن صدري:
سيدي فحصت الأشرطة كلها أغاني ماعدا شريطا واحدا إباحيا بذيئا للمغني يوسف عمر ترددت.. اللمبجي
هز الضابط رأسه ونادى على الموقوف فحضر مع الحارس.
اقرأ ثانية الموت بعينية
الوجه الأصفر
العينان الغائرتان
سحنة موت تحوم على جبينه
قال الضابط كما لو كان ينهر كلبا:
طاح حظك إخوتك في الجبهة يستشهدون في سبيل الوطن وأنت تسمع أغاني فاسقة؟
ظل الشاب ساكتا. لا يدري بماذا يجيب كأنه لم يفهم ، فتح الكيس وسألني:
أين هو الشريط الفاسق؟
أشرت إليه، فقد حفظته وسمعته عدة مرات أنا وجنود سبقوني ورحلوا:
خذ الشريط إلى المحرقة، ثم إلى الشاب:
استلم أيها العار أشرطتك ولا ترني وجهك. !
***
رواية قصيرة
د. قصي الشيخ عسكر