نصوص أدبية

زهير ياسين شليبه: فيليتون

قصة قصيرة ساخرة، الفطحل في مغامرة بصراوية*، بمناسبة الذكرى الثامنة، لرحيل الكاتب عدنان المبارك 1935-2016555 adnan almobark

كان الفطحل يرتدي سترةً فوق دشداشةٍ بألوان مبهرجة مزركشة كأنه قرقوز!
قد تكون سترتُه "مقفّلةً" لكنها تبدو ملطخةً، متسخةً،بل قذرة! أو رماديةَ اللّون عند التمعن ببقايا لونِها الأساسي،تختلط الألوان هنا،القرمزي والأصفر والبنفسجي، مؤطّرةٌ بخيطٍ أخضر رفيع. دشداشتُة البيجيةُ لم يبقَ من لونها الأصلي شيء يُرى بالعين المجردة، فضفاضةٌ، متهرئةٌ.
صارت ملابسه خارطةً بفعل آثار الزيوت والسوائل وفضلات البهائم. الغريب، إنّ الدشداشة أيضاً تبدو فيها خطوط خضراء دقيقة تلمع في بعض الأماكن كأنها في الأصل سلك حريري لتكتمل صورة الفطحل كمهرج يسخر منه الآخرون.
كان الفطحل يتذكر وجوه بعض أعضاء عصابة، "علسته" كما يُقال في هذه الأيام، وحسب المعلومات القادمة لنا من حبيبتنا المنكوبة بغداد.
و"العلس"، وما أدراك ما العلس، مصطلح جديد كما يبدو يُطلقُ على أي مخطوف أو بالأحرى مختطف تبيعه العصابة الخاطفة إلى نظيراتها الأخرى، يعني إلى "زملائهم" في المهنة والعمل، بزنيس! ليش لا؟ كل شيء مباح في البلد المستباح! كل ما تريد ممكن في العراق الجديد، ذي الدم المراق، المحرر من قبل الرفاق، كاوبوي النفاق.
تذكّرَ الفطحلُ المسكين كيف قال له مرّةً أحدُ التافهين "العلّاسة"، ويبدو من هيئته ونظراته ولسانه أنه من أولاد الشوارع:
- لك أعور العين ابن النعال! زمال ابن الزمال!
أخ ال... أنعل ابوك يا بو الجابك علينا هنا، هالمره كسرنا شرفك ون ... وصوّرنا كل شي بفيلم، دير بالك، حِسّك عينك ترجع هنا،روح لبولونيا، يقولون مَرتك البولونية توسلت بربعنا وراح يدفعون فلوس حتى نطلق سراحك.
دير بالك وترجع للعراق بعد!
طبعا لا يمكن نقل كلِّ مفردات هذا المجرم بحذافيرها، قبيحة يندى لها الجبين!
لكن صاحبنا الفطحل غاسل وجهه ببوله! كعادته لم يُصغِ لكلامِ أصحابِه ونصائِحِهم، يُشاع، وحسب رواياتِ المقربين منه طبعًا، لم يُطق الغربة هناك وإهمال زوجته البولونيه له، يقال إنها رمت ملابسه أمام سكاّن البناية البولونيين ساخرةً:
- فينوخا زمويغو دومو تي برودني آربوسه، مام جي دوشج، زامينجيويش منيه، يوش نيي موغيو فاس زنوشج دووشي، هيبوكريتسي، نيغوسي، كوامتسي، فينوخه زووجيو ز بغدادو ! يعني بالعراقي الفصيح: (اطلعْ من بيتي ايها العربي القذر، انا تعبت منك، لا أقدر بعد على تحملكم، منافقون، أفاقون، كذابون، اطلع حرامي بغداد !) ***
لم يتحمل الفطحلُ بَردَ بولونيا وصعوبةَ لغتِها الغريبة عليه وإهانات زوجته وتهكّمها المتواصل به، وأغرته حياة "الجاه والسلطة"، تصوّرَ نفسه أنه يتمتّع بها في بلده العاق، كما كان يسميه بدلاً من العراق.
صحيح أن أهله قطعوا اتصالاتهم به وتنكّروا له خوفاً من "الإبادة الجماعية"، نعم، كان يمكن أن يتعرضوا لها بسبب حبّه للظهور في برامج بعض المحطات التلفزيونية والتباهي والإدعات وإصدار التهديدات والتحذيرات والإنذارات هنا وهناك مؤشراً بسبّابته متهماً كل معارضي الاحتلال الأميركي بالإرهاب والتكفير، كما فعل في بداية السطو متصوراً نفسه بأنه يملك سلطة حقيقية في البلد، إلا أنه اقتنعَ أخيراً بتحذير أحد "السياسيين" من القادة الجدد واستجاب لإغرائه بأن يسافرَ معه لفترة قد تطول إلى بولونيا كعضو في وفده. وكان للفطحل ذلك، وصار يخدمه خير خدمة ويوفر له السندرلات الجميلات لاسيما أنَّ زوجتَه تقبلته على مضض أو ببرود في البداية، لكن الأمور تغيرت من سيء إلى أسوء إلى أن ضاقت به ذرعاً، وساءت أحواله.
عاد الفطحلُ إلى بلده متصوراً أنّ جيبَه المليء بالدولارات سيجلب له الجاه والاحترام. اتّصلَ بوالدته، قالت له نائحةً في الحال:
- يُمّه الله يخليك ارجعْ لا تبقَ هنا، ما إلك مكان هنا بديرتنا، العراق صعب، الناس هنا مو سهلين، قبل كان عندنا حصار وكنّا فقراء، وصدّام فارك خشومنا! هسّه تغيرت أحوال الناس، دخل الأميركان وصدّام راح! قبل كم سنة، كان أي واحد يقدر يضحك عليهم،يقشمرهم بورقه وورقتين، مستعدين يقتلون ابوهم ويفجّرون بناية إذا تدفع لهم ورقة، يعني 100 دونار امريكي! هسّه صاروا يطلبون الملايين!! صار عندنا ألف صدّام! ابني! بعد من يقدر يگحمهم هذول العراقيين، صايرين نار كبره، يمّه! لا تتّصلْ بينا، تَره كلهم انقتلوا بسببك، انتقلنا لغير مكان بسببك، ما نريدك بعد هنا، خلّيك بعيد وسعيد.
وصار الفطحل الإنسان المسالم يبكي ويلقي شعراً:
بصقة إثر بصقه
على البلد العاق!
بصقة على تلك الصفقه!
حياة الكذب والنفاق!
يخيرونك بين الآلام
والنعيم
نحن لها رغم النعاق
في البراري نهيم
بالعناق
وفي الوديان والصحارى نقيم
والبلد المعاق
حتى نقض مضاجع الإرهابي اللئيم!
اتّصلَ الفطحل بأحد محرِّري الصحف الجديدة المدعومة من لوردات الحرب والأميركان، لا يقرأها أحد، قال له:
- عندي قصيده عن الإرهابيين أريدك أن تنشرها.
نُشرتْ القصيدةُ العصماء في اليوم الثاني مع صورته الكبيرة وهو يؤشّر بإصبعه قائلاً:
- لا مكان للإرهابيين في بلاد الموسوپاتاميين! اخرجوا من بلاد الرافدين!
لكن يا خسارة "ماعمّرت الحاره"، بعدها بأيام وَجَدَ الفطحلُ نفسَه في صريفةٍ وزريبةٍ مليئة بالقاذورات والدواب وجها لوجه مع مجموعة من العتاة أولاد الشوارع السفلة يوجّهون له أقذع الإهانات والإزدراءات "أمُّداك! ما تجوز من سوالفك؟! راح تبقى هنا، هذا مكانك، حالك حال الغنم إلى أن تجينا الفلوس.
مَسَكَهُ "الضابط" كما يسمونه، من زيق دشداشته الممزقة المتهدلة هازاً جسده فسقطَ شماغه القذر:
- اسمعْ، انت الظاهر كل شيء ما يفيد وياك، المَرّه السابقه بترنا لسانك، المَرّه الجايّه نقطعه كله ونكسر رجلك وناخذك لمصر نجدّي بيك،بس نقتلك؟ لا، مستحيل، لازم نخليك على هالحال الى أن نستلم الفدية، طلبنا 100 ألف دولار! وإلا نخلي حتى الدواب تن... وياكلك الدود وتموت، يَلّه، قمْ من مكانك، تحركْ!
كان أفراد الحماية يقهقهون بوجوههم القاسية المشوهة قائلين بأصوات عالية كأنهم دمى أو ببغاوات متأرجحة يهزون رؤوسَهم "أحسنت سيدي! عاشت إيدك سيدي!" كلما سنحت لهم الفرصة، لكن سيّدَهم أدار وجهه إليهم، كما يبدو مشمئّزاً صارخا بهم:
- كم مرّه قلت لكم ما تضحكون لما أتكلم؟ بهايم!
- عفواً سيدي! قالوا بصوت واحدٍ
- انصراف! روحوا شوفوا شغلكم! خلّوني أدخّن!
جلسَ زعيمُهم على كرسي متحرك قديم، لكنه لايزال مريحاً، يبدو أنه من مخلفات "الحواسم" مسروق من مؤسسات الدولة بعد السطو الأميركاني على العراق، لم يستطع الضابط أن يمنعَ ابتسامةً صغيرةً أن تظهر من بين شاربين منسدلين على شفتيه عندما جاء أفراد حمايته واحداً تلو الآخر يسألونه "سيدي! سيدي! محتاج شيء؟"، أحدُهم قالَ له "سيدي، عفواً ضحكنا شويّه لماكنتَ تتكلم مع هذا الجرو!" أشار لهم بيده أن يغربوا عن وجهه. قرّرَ الضابطُ أن يسترخي قليلاً بعد أن تركوه لوحده حتى غلبه النعاس.
***
- لَك وين رحت؟ إبن الق... ليش خلّيت الدواب تسرح وحدها، آني كم مره قلت لك ما تتركها! جراب إبن الجراب! يلّه قُمْ !..
بهذه الكلمات خاطبَ "الضابطُ" المتسلطُ صاحبَنا الفطحلَ بينما كان زبانيتُه أفرادُ "حمايته" يقفون وراءه بوجوه عابسة يتلفتون يمينا ويسارا. ما كان من الفطحل الا أن نهض قائلا كأنه يتمتم بلسانه الألثغ محاولاً استرضاء عنجهية هذا القائد:
- شمعاً وتاعاً، شَمعاً وتاعاً، شيّدي (يقصد سمعاً وطاعةً)
مَسَكَهُ الضابط هذه المرّة من "خوانيقه" وهو يدفعه إلى الوراء:
- حِسّك، عينك، تروح بعيد من هذا المكان، مفهوم!
وصرخَ به بصوت عالٍ وبكل ما أوتي من قوة بلسان سليط والرذاذ يتطاير من فَمِه:
- يَلّه! فوت منّا! دير بالك عالحلال! وخّر من قدّامي!
- أمرك شيّدي، الله يخليك لا تخنقني، آني إشْشَّوّيتْ؟ آني ماقتلت ولا ضربت أحد، والله آني مشكين والله مشكين!
وانهارَ الفطحلُ في البكاء بينما راح "يَهشُّ ويَبشُّ" الدوابَ يركض وراءهم و"حادَهم" نحو الحظيره. وبقي هناك خائفا مذعوراً من نظراتِ الحرّاس يبحلقون فيه ساخرين منه.
أشار "الزعيم" إلى حارسين طويلي القامة أن يأتيا اليه، وراح يهمس بإذنيهما، يبدو أنَّ أحدَهما تَململَ، قالَ له بصوت خافت معاتباً متوسلاً به بخنوع "سيدي والله صعب عليّ، مادَ أقدر، ريحته تعط، ماتقلّي إشلون أسوّي هاي الشغله ؟ ". رد عليه الضابط " لَك كلب إبن الكلب، تريدني أسويلك اجواء شاعريه؟ هذا شغل آني جبتك من الرعيان وسوّيتك حمايتي، بعد شتريد؟ أحسن أرجعك للحلال؟ تريد أخليك تسرح بالغنم؟ كلب!" ردَّ الحارس مطأطأ الرأس:
- أمرك سيدي، اللي تريده يصير.
بدت علائم الارتياح على وجه قائدهم "الضابط"، بينما أمر الحارس الثالث أن يصور كلّ شيء بكامرته الصغيرة.
وجلس حاكمهم الأوحد على أحد الكراسي يدخّنُ سيجارتَه مستمعاً لصراخ الفطحل وتأوهاته وبكائه وأنينه بهستيرية.
***
كان الفطحل يجلس لوحده يعاني من الجوع حائرا بين تنظيف الدم من ملابسه والقذارة، أرادَ أن يأكل كسرةَ خبز إلا أنّ شهيته كانت مسدودةً، وصار ينحب ويصرخ ويأنُّ باكيا مغمغماً يلفظ الكاف تاءً والقاف دالاً والراء والذال لاماً ومن لايعرف حاله لايفهم من كلامه شيئاً، لكن اللبيب تكفيه الإشارة:
" لِج يُمّه ليش عفتيني؟ وينكم اهلي؟ اهل الحموله؟ مو آني تِنتْ داعد ببولونيا، ليش لِجعتْ ملّه تانيه لهالبلد، هلوله قتالين قتله، مدرمين (محرمين)، تِلهم مدرمينن البولون حكراء والعراقيين مدرمين.
وكان لسان حاله يقول "ياريت لو أقطع لساني كله وأفقس عيني الثانيه كي ابدو أبكمَ وأعمى، فإلى متى سأتحمل هذه الحياة المُمِلّة، ياليتني أعود الى القرية البولونية وأتصالح مع زوجتي، لكن إشلون؟ إشلون؟ فانا اليوم لا جواز سفر ولا هويه، منعزل بهذا البستان، لا أعرف مكانه، يقولون إنه في أطراف البصره، وأخدم هؤلاء الساقطين شذاذ الآفاق الذين يهددوني بأن يسلّموني إلى عصابة أخرى أو المجهول، لكنهم يَعِدوني بأن يطلقوا سراحي إذا استلموا الفدية، وبعدين يهرّبوني الى الكويت لكنهم لم يَفوا بوعودهم، "ماكو شيء، لا فدية ولا هم يحزنون، ولهذا "ضباطهم" السَرسَريّة يعاملوني أسوء معامله، أخدمهم بكل شيء لكنهم يشتموني دائما، يارب ماذا أفعل لهم؟" ويردّد بين نفسه مقطعاً من اغنية كانت جدّته ترنّمها، مستوحاة من حكاية قديمة عن "أم صنكور"، امرأة عجوز نرجسية متعالية "شايفه نفسها شوفه"، تعشقُ الدنيا، ذات طموحات ورغبات وأمانٍ وأحلام كبيرة بأن تبقى على قيد الحياة أبد الدهر، كانت تضغط على ابنها صنكور بأن يجد لها مكاناً يعيشون فيه لا يدفنون موتاهم في القبور!
أجل، لم تُرد أم صنكور العجوز أن ترضى بالواقع وأن تكف عن التطلع إلى الأعلى، وأنّ عليها أن تتعايشَ مع فكرة الدفن، وأن يكونَ مصيرُها القبر عندما تحين منيّتها وتنشب أظفارها كبقية الناس العاديين، وطبعًا لاتريد والدته تقبّلَ هذه المصير أو النهاية أبداً، وتهللت أساريرها وفرحت بالمكان الجديد الذي انتقلت إليه مع ابنها حيث سمعوا أن الموتى لايدفنون فيه كما أخبروهم، إلاّ أن النهاية لم تكن سعيدةً كما هو الحال في الحكايات الشعبية وكما توقعت هي وابنها طيب القلب وصافي النوايا، وأنَّ المطاف انتهى بها عند آكلي لحوم البشر حيث طبخوها بدلاً من دفنها حسب تقاليد سكّان هذه المنطقة الجديدة، عبثاً حاول ابنها صنكور أن يردّهم عن ذلك، لكن سبق السيف العذل وانتهى الأمر فلا مناص، عندها صار ابنها يردّد متأسفاً باكياً، و الدموعُ تُرقرقُ من عينيه، تسيل منهمرةً "رباع ربا":
" يا أم صنكور يا أم صنكور
ماردتِ دفن بقبور
أخذي طبخ بقدور!!
***
زهير ياسين شليبه
أيلول 2009-2006
...................
* تصميم الرسم والعنوان ونص الجملة البولونية واختيار نوع الخط من قبل عدنان المبارك.
** تعليق عدنان المبارك على هذه القصة:
"يبدو أن شخصية الفطحل ألهمتني فكتبتُ عنه قصةً ضمّنَتها أشعاراً جديدةً من استلهاماته.
في الحلقة القادمة، سأروي لكم ما بقي من مغامرة الفطحل البصراوية وعموما مغامرة عودته الى ربوع الوطن".

في نصوص اليوم