نصوص أدبية
ذكرى لعيبي: أناملي والدمى
الفصل (12) من رواية: غابات الإسمنت
كنت مرهقة متعبة، على الرغم من ذلك ينبغي عليّ أن أواصل التمرين، جاءني شخص آخر ملثّم اقتادني إلى غرفة فسيحة، فيها عدد من الدمى المنفوخة من المطاط الصلب... لنساء ورجال، أكثر من عشر دمى، وجدتُ الوقت الكافي لعدّها قبل أن ينطق الحارس، بالضبط إحدى عشرة دمية بحجم الآدميين، قال إنه درس في المساج، وعليّ أن أقلّده فيما يفعل من دون مقاطعة أو سؤال.
أحرّك يدي.
أنثني بجسدي.
أطوّع أناملي.
التقطَ دمية رجل وأقلبها على البطن، راح يدلّك منطقة الكتفين، أصابعه تلتم وتنبسط، تنقبض دقائق طويلة ثم تنبسط أسفل الكتف وتدور وأنا أقلده، نزل إلى الظهر كان يؤدي عمله باحتراف عال، ذكرّني بمحل مساج في مدينتي لسيدة زرتها يوم كنت متزوجة، بعدئذ هبط إلى أسفل الركبتين، استمر وقتا بالمساج حتى تحرّكت أنامله إلى باطن القدمين، عندئذ راح يتحدّث بإسهاب:
علينا أن نعرف فوائد الطب الصيني التي يُغرم بها الناس، هنا في هذه النقطة الأمعاء، هناك عند الأعلى الدماغ، وتحت إلى اليمين القلب، ثم العين وفي اليسار الأعصاب، في باطن الرجل تكمن كل نقاط الجسم، كنتُ أستند إلى ركبتيّ وأتابعه باهتمام، ثم نهض من أمام الدمية وبدأ يتعرّى، أخذني الشّكّ بعيدًا، وتنفّستُ الصعداء عندما رأيته يُبقي على قطعة تستر عورته.
أكاد أراه عاريا أمامي وإن لم يتعر تماما.
أقرف منه.
لا أهتم بجسده إطلاقا.
يمكن أن أقول إنني تحررت من عقدة الرجل ...
وضع وسادة تحت صدره، وحثنّي بصوت حاد يخلو من صرامة، باشري طريقة المساج معي، بدأتُ بكتفيه رحت أدلكهما بأربعة أنامل والسبابة، بقيت أدلّك وأقرأ ساعة الحائط، ثم طلب منّي أن أهبط إلى ظهره، كانت أناملي تسرح تحت عصعصه، شعرتُ ببعض التعب وقرأت الساعة من جديد، فوجدتني قضيت عشر دقائق، وقبل أن أتوقف بعض الوقت ألتقط أنفاسي، قال:
الآن عضلتا الساقين، لا شيء غير أناملي وحركة يدي، وبعد عشرين دقيقة، فوجئتُ به ينقلب على ظهره ويطلب مني أن أتعامل مع باطن قدميه.
سألني أن أدلّك عضلة القلب والكبد والرئتين، بعضها نسيته، فذكرّني به بصوت حازم جاد، فعلت الأمر مع القدمين كلتيهما، وعندما انتهيت توقفت والخدر يدّب بأناملي وعضدي، حينذاك نهض وارتدى ملابسه وقال بصوته الرزن الجاد:
يمكنكِ أن ترتاحي نصف ساعة، هذه الدمى أمامك، استمري في عمل مساج لكل واحدة منها، وأمامك على الطاولة خريطة الطب الصيني، احفظيها جيدا ولا تتوقفي عن العمل حتى آتي إليك من جديد.
أنهى عبارته وخرج، وكانت أمامي مجموعة من الدمى تنتظر، وعيناي تقعان عليها تارة، وتارة أخرى على ورقة فوق منضدة قريبة تنتظر أن تدلف في ذاكرتي، وقد دخلت وبقيت معي وسوف تظلّ حتى آخر العمر.
في الوقت نفسه بدأت أتحرك نحو الجثث الهامدة أمامي، بالإبهام والأصابع الأربع، أدلّك براحة اليد اليمنى وباليسرى أدعك.
تسرب الهواء من دمية لأمرأة، فنحيتها جانبا، وانصرفت إلى الدمى الأخريات بالسبابة والإبهام، وأنا أطالع القدمين والخارطة أمامي؛ أعمل وألتقط أنفاسي، أحدّث نفسي: هل ينقذني العمل بعد أن أخرج من السجن؟ حتى جاءني صوت بعد ساعات:
توقفي.
فرحت، التقطت أنفاسي، ولم يمر وقت طويل حتى وضعوني في غرفة ذات سرير مريح، وملابس للنوم نظيفة، قدموا لي عشاءً فاخرًا؛ كبابا وفخذ دجاجة وفاكهة وعصيرا، فالتهمت الطعام بشغف ونمت تلك الليلة نوما هادئا، واستيقظت عند الصباح على يد تهزّني، فرفعتُ رأسي فرأيت مقنّعا، أدركتُ من نبرة صوته أنه حارس آخر، تناولت فطوري في الغرفة ذاتها، تلذذتُ بجبنة ومربى وقطع من التوست المحمّص، وارتحت لكأس شاي ساخن.
بعد الانتهاء من تناول وجبة الفطور، قادني الملثّم إلى غرفة وجدتُ فيها بعض النساء المقنعات.
لا أدري إن كن من سجون أخرى، خمس مقنعات وأنا سادستهن، أمامنا لوحة... درس جديد بعد التجربتين السابقتين، دخل رجل أنيق لا يلبس قناعا، ذو وجه طويل، نحيف... يسرّح شعره إلى جانب اليمين، عيناه تختفيان تحت نظارة قاتمة سوداء.
ـ عليكن أيتها المتدربات أن تنهضن.
خامرني شعور لذيذ، متدربات ولسنا سجينات!
نهضنا... وأردف: حين آمركن تنفذنّ وتقلن نعم سيدي.
فصحنا بصوت واحد وفق ما أمرنا به فقال: حسنًا جلوس.
جلسنا فتقدم نحونا وسألنا، كانت يده تقبض على بطاقات مربعة، سلمني بطاقة، فقرأت فيها الرقم 25؛
كل واحدة تحمل رقمها، ولن يتغير إلا بأمر أو طلب من صاحبة الرقم لأسباب معقولة، ولعلكن تسألن كيف يكون السبب معقولا؟ أقول يمكن أن يبعث الرقم في نفس حاملته عدم الراحة، أو تشاؤما مثلما يتشاءم بعض الاشخاص من رقم ما.
هذا سبب غير معقول، نحن لا نعرف التفاؤل والتشاؤم، بل تجنب الخطأ، لأنّ عملنا لا يستند قط إلى العواطف، تذكرن هذه المقولة جيدا، وتذكّرن كل كلمة أقولها.
ثم توقف لحظة وقال:
درسنا اليوم النظارة، بعدها امتحان الذاكرة... وطلب منا أن نستدير فتنظر إحدانا إلى الأخرى ثمّ سأل: الرقم 37 من ينظر إليك؟ فردَّ صوت ناعم: نظرت إليّ 25 وحولت عني نظرها، سألني: أي من الأرقام نظر إليك؟ فقلت كان الرقم 55 و69، وطلب منّا أن ننظر ونحول نظرنا ونجيب بلغة الأرقام، بعدها استدرنا نحو اللوحة على الحائط، استطرد في ملاحظته:
رأيتن كيف أن الأقنعة لم تمنع تشخيصكن للعيون؟ عرفتن النظرات، افرضن أن الأرقام وجوه وأن لا قناع؛ لكن حين يرتدي الشخص نظارة سوداء قاتمة، فإن نظراته ستكون محجوبة، ولن يتبين للآخرين إلى أي اتجاه ينظر، لهذا السبب يرتدي مرافقو الرؤساء والملوك والأشخاص المهمون نظارات قاتمة، إنهم يستطيعون أن ينظروا بجميع الاتجاهات دون أن يعرف أحد إلى أين ينظرون، كأن المساحة مفتوحة أمامهم.
بعد ذلك رفع من درج أمامه مجموعة أوراق وضعها أمامنا... أخبار وجمل وألغاز، نظرت فيها وانتبهت إلى عبارته:
اقرأن هذه الأخبار جيدا، تمعّنّ فيها، وسأعود إليكنّ بعد ربع ساعة، تذكّرن، الكلام ممنوع.
خرج ولم تحاول أي منا الحديث مع الأخرى، رحت أطالع...
أول كومبيوتر في العالم اخترعته ألمانيا كان يحتل عمارة بثلاثة طوابق. إذا راقبت السوق ورأيت الناس يتهافتون في بلد ما على التفاح أكثر من أية فاكهة وبلدك ينتجها... فيمكنك أن تبعث بالخبر إلى بلدك، ذلك هو التجسس الاقتصادي. فينيسيا مدينة على الماء. لماذا يلبس القضاة والمحلفون في كل المحاكم الملابس السوداء؟ كان هناك اتحاد بين دائرة الأمن في زمن الإمبراطوريات ومهنة البريد. أين أقيمت أول بطولة لكأس العالم في كرة القدم؟ خمسون لغزا قرأناها من ضمنها مجموعتا أرقام 668990 و 9753124، لا أدري لم زجّوا بهذين الرقمين ضمن الخمسين سؤالا، ولا أظنّ أنهما حقيقيان؛ لكنهما لفتا نظري إلى درجة أنني حفظتهما، وحينما عاد ليجمع الأوراق منّا، وضع على طاولاتنا أوراقا بيضاء وأقلاما قال:
أمامكنّ ربع ساعة للإجابة، الحد الأدنى هو أن تتذكر الممتحنة عشرين نقطة من النقاط الخمسين .. عشرون كافية، إن العمل المخابراتي يعتمد على الذاكرة بالدرجة الأولى ... سأعود بعد ربع ساعة.
كانا الرقمان الغريبان أول ما كتبته قبل أن أنساهما، تذكرت أكثر من عشرين سؤالا... وربما أجابت الأخريات مثلي أو أكثر، وحين عاد وجدنا نكتب؛ لكنه جمع الأوراق ووضعها على المنضدة... التفت إلينا وقال: لا تقلقن، مجرد امتحان للذاكرة ، نظر في الأوراق ورقة ورقة وهتف فينا مشجعا:
عظيم جدًا، ما زالت ذاكرة كل منكن في أوج سطوعها، والأجمل أنكن كلكن حفظتن عن ظهر قلب الرقمين ... هذا ممتاز، هل من سؤال؟ صمتنا كلنا فهز رأسه وقال:
حسنٌ إذن، استيعاب تام ، اليوم انتهينا، ويمكنكن الانصراف، فدخل رجال ملثمون اقتادوا كلا منا إلى غرفتها.
بعد ذلك توالت التمارين، طرائق جديدة سريعة لخطف أوراق مهمة من جيوب أشخاص ، تقرب للكلاب البوليسية المدربة، لفّ رَجل مخابرات يدي اليسرى بخشبة وأصدر أمرا لكلب يترقب من بعيد فانطلق نحوي، وأخذ يدي بين أسنانه حتى جاء الرجل نفسه، فتركني الكلب.
طرائق جديدة في استخدام الكامرات الصغيرة، وأقلام للتخدير تشبه أقلام أحمر الشفاه، ووعدونا بدورات أخرى نتابع فيها دروسنا لكي نكون نساء مخابرات، لا أعرف إن كانت الأخريات سجينات مثلي، فلم ترَ أي منّا وجه صاحبتها قطّ؛ لكن غلب على ظني ذلك.
كنت سعيدة حقا بهذه الدورة، على الرغم من أنها كانت متعبة، لأنها أبعدتني عن أجواء السجن، فقط كنت أفتقد صديقتي مديحة.
***
ذكرى لعيبي