نصوص أدبية
عبد الرزاق استطيطو: السراب
كل جمعة مباشرة بعد آذان الفجر يأخذ بيدها كطفلة إلى نفس الجهة ونفس المكان ونفس المقبرة، وفي الطريق وهما يمضيان بخطى ثابثة بين أزقة المدينة ودروبها المتعرجة وشوارعها الفسيحة المزينة بلوحات الإشهار المضاءة، وأشجار الياسمين الذي تزيد غبش الفجر بهاء وجمالا، كان يذكرها بالخطط المتفق عليها لجمع المال بأقل جهد وبحيل متقنة، ويشرح لها كبلاغي محنك كيفية اختيار الكلام المناسب للشخص المناسب، ويتوقف أحيانا ليوضح لها أكثر نظريته في فهم الحياة والناس وكيفية الإحتيال عليهما معا ... يأخذ نفسا من هواء الفجر النقي.. يتأمل السماء التي بدأت تودع نجومها المتلئلئة كأنه يناجيها، ثم يصعد بخفة العصافير فوق عتبة باب إحدى العمارات الشاهقة ليمثل أمامها بإتقان دور عجوز أعمى هده الفقر والزمن ونسيه الحظ والقدر فجعل منه متسولا معدوما .. فتنتاب فطومة نوبة من الضحك حتى تدمع عيناها وتظهر أسنانها المتبقية، وهي تتفرج عليه معجبة به قائلة له : "والله ثقت بك التهامي متقول غر بالصح أعور وشارف فين قريت العفريت هذا التمثيل..." ثم يأخذ بيدها من جديد ليكمل المشوار.. وعندما يصل بها إلى مكان عملها يفرش لها قطعة الكرتونة على الزليج الرمادي المتسخ فتجلس بتؤدة وتمد رجليها النحيلتين وتسند ظهرها المقوس كمنجل على الجدار المهترئ لتشرع في لعب دورها على خشبة مسرح الحياة مرددة " يا فتاح يا رزاق يا مهول كل الأرزاق" وبعد هذا الدعاء تعمل على ترتيب أغراضها. القفة المخصصة للخبز والحليب تضعها على يسارها حيث باب مقهى الريو، وعلى اليمين جهة باب مخبزة السعادة الدائمة تلقي بعصاها والصرة البيضاء. أما النقود فكانت تدسهم بحذر شديد في حمالة صدرها بعيدا عن الأنظار خاصة زوجها.. وهكذا يتحول المكان إلى مقر عمل ... وما بين هذه الأبواب المشرعة كانت تلتقط كل صباح ومساء رزقها ولا تبرح مكانها إلا وقت القيلولة، لتجوب شوارع المدينة ممثلة على أصحاب المحلات ورواد المقاهي دور عجوز قليلة الحيلة والنظر يساعدها على ذلك طفل في العاشرة من عمره مقابل عشرين درهما لليوم ...وتعود لمكانها من جديد بعد أن تكون قد تأكدت بأن مدخولها عند نهاية المساء لم يقل عن الجمعة السابقة مليما واحدا.. تلك حياتها التي ورثتها عن أمها وورثتها الأم عن الجدة حتى صار التسول حرفة العائلة ومصدر رزقها...ودعها زوجها بعدما دبت الحركة في الشارع والحياة في النفوس وراج الدرهم في الصرة والخبز وعلب الحليب في القفة، قاصدا السوق الكبير الذي يتوسط المدينة ويقصده الكل للتسوق حيث يرتدي هناك نظارة سوداء، وجلبابا حائل اللون، مفترشا الأرض مباشرة جالسا القرفصاء... ففطومة لم تقبل به زوجا لها إلا بعد تأكدها بأن دخله في السوق أكثر بكثير من دخلها أمام المقبرة. فرزق الأحياء كما تقول غير رزق الأموات.. وبعد زواجها منه ازداد رزقها، فعملت على بناء الطابق الثاني من بيتها، واشترت بعد ذلك بسنتين بيتا آخر وفتحت أسفله دكانين واكترتهما لتاجرين بثمن مغر ..كانت كلما عادت من عملها وقبل أن تخلد للنوم تعيد عد النقود وتتأكد من ما ادخرته في وسائد غرفة النوم ومن ما قبضته من المكترين فهي لا تثق في خزائن البنوك مثلما يفعل زوجها الأهبل الذي قد يضيع ماله في رمشة عين، وقد نهته كثيرا بعدما سمعت من الراديو عن السرقات المتعددة لناقلات أموال البنوك واختراق حسابات الزبائن ... عاد التهامي من السوق بعد يوم عمل مضن حصل فيه على ألف درهم وهو دخل لا يحصل عليه موظف بسيط خلال أسبوع من العمل، ولا محالة ستفرح زوجتة فطومة أيما فرح بهذا الخبر العظيم، وهي عندما تفرح تتنازل له عن حصتها من اللحم والفاكهة .... فتح الباب بهدوء ثم وضع بعد ذلك القفة والحذاء في المطبخ، وأمن على ماله تحت الوسادة وذهب لإيقاظ زوجته فطومة لتناول وجبة العشاء... ظنها في البداية بأنها غارقة في النوم بعد يوم عمل شاق ومتعب لا يقدر عليه سوى الأشداء من الرجال ..قلبها يمينا وقلبها يسارا.... نادى عليها بصوت عال ..ولما تأكد من موتها وبأن روحها صعدت إلى السماء.. اختلطت عليه مشاعر الفرح والحزن وفضل في النهاية ان يكون واقعيا أكثر من اللازم.. جمع المال الموجود في الوسائد ووضعه في قفة كبيرة وغطاه بقطعة قماش بالية ونقله صباحا على وجه السرعة إلى البنك ...وجد البنك فارغا من الزبائن .. أكد له الموظف أكثر من مرة من أن المبلغ هو خمسون مليونا وأربعة آلاف درهم بالتمام والكمال خرج الرجل من وكالة البنك مسرورا، وفي غفلة انشغاله بما سيفعله بهذا المال والعقار الذي انضاف لماله، وممتلكاته نسي مراسيم دفن زوجته فطومة وإخبار السلطات بموتها، ولم ينتبه لصخب الشارع ولا للمارة ولا للسيارات التي تمر بجواره كالبرق... خطى الخطوة الأولى على الخطوط البيضاء لممر الراجلين ولم يكمل الخطوة الثانية حتى ارتفع صياح المارة وأسفهم على ما حصل فقد دهسته سيارة كان صاحبها يسوقها بتهور وجنون فأردته قتيلا مرميا بالقرب من الرصيف غارقا في بركة من الدم .. وهكذا صارت الجنازة جنازتين، وتحول بيتهما في النهاية إلى مأوى للمتشردين والحمقى وقطط آخر الليل وتلك أحلام أخرى منذورة للرحيل.
***
قصة قصيرة
عبدالرزاق اسطيطو
...................
* "أي تطابق بين أحداث القصة وشخصياتها وما جرى ويجري بالواقع هو من قبيل الصدفة وإبداع التخييل الذي يجعل الخيال واقعا والواقع خيالا"