نصوص أدبية
ناجي ظاهر: فؤاد الظلام
فتح الشاعر أبو ماضي باب غرفة منتدى الامل هازًّا إياه وناظرًا إلى الفضاء المُطلّ على البلدة القديمة. بدت على وجهه علامة رضا.. الباب القديم ما زال قويًا. وموافقته على إبقائه كما هو كانت واحدة من حكمه الخالدة التي سيعتزّ بها أمام رواد منتداه. أدار ظهره إلى صدر الغرفة ذات الطراز القديم بادي العراقة. ونظر إلى ساعة والديه الراحلين المعلّقة هناك في صدر الغرفة، بالضبط في مكانها اللائق بها.. كانت الساعة تشير إلى الثانية والنصف "الأصدقاء سيأتون في الثالثة بالضبط". قال لنفسه، وتوجّه إلى الغاز القديم القابع في زاويتها الخاصة به. أشعل ناره. وضع غلاية القهوة. وابتدأ في غليها. إنّه صاحب خبرة ودراية في غلي القهوة. هذه الطريقة ورثها عن والده المُحبّ العاشق لكل ما هو قديم... أضاف ثلاث ملاعق كبيرة إلى المياه المنتظرة في الغلّاية. أخذ يحرّكها بحرفية جعلته يبتسم القهوة لها أصحابها وليس كلّ من غلاها فلح ونجح. أنزل الغلاية من على الغاز. انتظر ان تركد القهوة فيها. صبّ القليل منها في فنجانه الخاص به. أدنى الفنجان من شفتيه. أغمض عينيه وسحب منها رشفة مُغمضًا عينيه ومتصوّرًا الأصدقاء المُنتَظرين وهم يشربونها ويتغنّون باليد التي ابدعت في غليها.
أحسّ بحركة في الخارج. فتوجّه إلى هناك. تلتفّت حول الباب. لم يكن هناك أحد. ما زال هناك متّسع من الوقت. بإمكانه بالتالي كما فعل في جميع لقاءاته الجدّية السابقة، في الزمن الجميل سواء مع طلاب مدرسة، أو في لقاء تلفزيوني حول نتاجه الغنائي. بإمكانه أن يعد الموضوع وأن يستعد له. فهو لا يحب الارتجال والمرتجلين ويرى فيه منذ أيام والده المحافظ على الدقة والسير في الطُرق الآمنة. الأسلوب الناجع لجني ما يرجوه من نتائج. لقد اتصل بأعزّ الأصدقاء ولم ينسَ أن يعزم مَن اقترحوه من اصدقائهم. وأجرى الاحاديث معهم. وتحدث معهم عن منتدى الامل. مختصرًا بكلمات تعمّد أن ينطق بها بتؤدة. مفادها أنه.. هو الشاعر الغنائي. يرى أن مَن ليس له ماض لا مستقبل له. وأنه قرّر أن يكرّس جلسة المنتدى الأولى للتباحث في موضوع الأغاني بين القديم والجديد.
عاد إلى داخل الغرفة. وقعت عيناه على المسجّل القديم. نسمة شوق هبّت على وجهه.. فغنى قلي كام كلمة يشبه النسمة في ليالي الصيف"، ما أحلى هذه الكلمات. بحث بين الأشرطة المُتراكمة على طاولة قبعت مُشرئبة بأعناقها معتزة بنفسها تحت الساعة القديمة في صدر الغرفة. لم يَطل البحث. مَن يعلم ربّما ما كان يبحث عنه إنما كان هو ذاته يبحث عنه. تناول الشريط وضعه في المسجّل. ضغط على زر التفعيل. وانطلق صوت محمد عبد الوهاب. هز رأسه رضا ومحبة. ما أجمل هذا الصوت. لقد تربّت عليه أجيال وأجيال. نازعته نفسه في شُرب فنجان قهوة آخر. فملأ فنجانه مرة أخرى. وراح يرتشف منه كأنما هو عاشق مُحبّ ومولّه يقرّب شفتيه من شفتي محبوبه.
اتكأ على يد كرسيّه القديمة القوية. مواصلًا الاستماع إلى الصوت المُطرب المُذهل في رقته وجودته.. صوت مطرب الملوك، وليس الناس العاديين فحسب. وهو يفكّر فيما سبق وألّفه. لا يقول كتبه من الأغاني في ذاك الزمن الذي يُسمّى ويُشار إليه بالبنان. لقد كتب كلمات رائعة غبطه عليها حين إذاعتها البعض وحسده البعض الآخر، فيما طرب لها غالبية أبناء بلدته. فحيّوه كلّما التقوا به ونطقت عيونهم بما أخفته طواياهم وسرائرهم من معزّة وتقدير. تفكيره في أغانيه تلك. أعاده مِن حيث يدري إلى موضوع التباحث في الجلسة الأولى. هذه الجلسة ستكون استمرارًا لما تحدّث به وقرّر أن يتمحور حوله تشجيعًا للأصدقاء واصدقائهم على القدوم والمشاركة.
تناول كراسة قديمة من أحد الرفوف القليلة في إحدى الزوايا الخفيّة لغرفته العريقة. وراح يتصفّح أوراقه الصفراء المُشعّة كالذهب. قرأ في الكراسة.. انه معجب بمحمد فوزي. زكريا احمد. أما موسيقاره العظيم.. موسيقار الأجيال.. فهو وديع الصافي. عندما استمع الموسيقار العظيم.. موسيقار الأجيال بإجماع الاحفاد والانجال. محمد عبد الوهاب إلى أبي فادي وهو يصدح من راديو القاهرة في أواسط الخمسينيات من القرن الماضي/ العشرين.. بصوته الجبليّ الشاهق. أذهله الصوت بقدر ما أذهلته اغنية ع اللومة اللومة اللومة، وقال لأصدقائه هذا المُغنّي اللبناني يمتلك أجمل صوت في الشرق. وراح يستذكر ما قرأه عن الوديع العظيم.. وديع الصافي. طيّب الله ذكراه. مُنتشيًا بما ادخرته الذاكرة عنه وعما حفظته من اخباره واغانيه.
أغلق كرّاسته تلك ووضعها قريبًا منه. وتناول كراسة ثانية. هو أجرى الكثير من الأبحاث والدراسات عن أغاني الزمن الجميل وأهله. قرأ على غلافها بخطّ الرقعة العربيّ الأصيل، اسم بديعة مصابني. صحيح أن الكثيرين لا يعرفون حاليًا هذه الفنانة المُطربة الخالدة التي سبقت أم كلثوم وشكّلت عقبة في طريقها. فقضت عليها ام كلثوم وهناك روايات كثيرة عن صراعها الخفيّ معها. وعن انتصارها السهل عليها، كونها كانت صاحبة موهبة.. كان بإمكانها أن تضع موهبة بديعة تلك في الظلّ وأن تنطلق هي وليس سواها إلى الأضواء واشعاعاتها الخالدة. " لديّ الكثير مما أقوله. مَن سيستمع إلى ما يُمكنني من اللفت إليه مِن الأغاني. وما حققته وبحثت فيه من أخبار فناني الزمن الجميل. سيدير الرقاب قبل الرؤوس. وسوف يكون مُنتدانا منتدى الامل مركز إشعاع يضع حدًا للفوضى الغنائية الحاصلة في عالمنا العربي المحيط بنا. ابتداءً من النانسي العجرمية إنتهاءً بالهيفاء الوهبية مرورًا بالعشرات من صاحبات القدود الميّاسة الفاقدات للصوت والتطريب. أما حكايتنا مع الهيفاء وتُرّهاتها أعتقد أنه يكفينا أن نذكر أغنيتها بحبك يا حمار. إلى هنا وصلنا؟ بحبك يا حمار. هنا توقّف الشاعر مبتسمًا وشاعرًا أن منتداه سيؤدي رسالته على أكمل وجه. وسوف يكون نقطة عودة إلى الزمن الجميل. وتوقّف ناظرًا إلى صدر الغرفة.. ومتمعنًا كلّ ما خطر له من الوجوه.. في مقدمتهم والداه العاشقان الجديان المتيّمان بذاك الزمن وبكلّ ما فيه من دفء وجمال. أما وجوه مدعويه فقد لاحت له مسلّمة مودّعة. لا سيما وجوه أصدقائهم.. استغرقه ما أراد أن يقوله.. وراح يشرب فنجان القهوة تلو سابقه إلى أن أتى على كلّ ما في الغلاية.. فانتبه إلى أنه أتى على كلّ ما فيها عن بكرة أبيه. الامر الذي دفعه لأن يحمل غلايته الفارغة ويتوجّه بها نحو غازه في زاوية الغرفة المعتمة ذاتها. وهنا أرسل نظرة خاطفة إلى الساعة القديمة المعلّقة في صدر الغرفة.. فطالعته بمفاجأتها غير المتوقّعة لقد مضى الوقت سريعًا. هو حدّد مدة اللقاء بساعتين، من الثالثة حتى الخامسة. أما الآن فقد أشارت عقارب الساعة اللاسعة إلى السابعة. "لن يأتي الأصدقاء اليوم إذًا". قال لنفسه واندفع نحو الخارج ليرى الظلام وقد خيّم على كلّ شيء.. واخفاه في خفايا تكاد تكون مطبقة.
***
قصة: ناجي ظاهر