نصوص أدبية
أمينة شرادي: كتاب قديم

شعرت بالزمن يلفني ويعيدني الى سنوات خلت، لما ولجت شارعا يمضي بي الى دروب صغيرة مليئة بأصحاب المحلات التجارية ودكاكين بائعي الذهب ومكتبات تعد على الأصابع. أشهرها كانت مكتبة "عمي قاسم". مكتبة ظاهرها صغير لكن عمقها ككهف من كهوف الأزمنة الغابرة. تطل عليك الكتب من الداخل بكل أحجامها وألوانها ومواضيعها. كان "عمي قاسم" موسوعة، لا يستعمل القلم للتذكر، كانت ذاكرته قوية. ما ان تسأله عن أي كتاب، حتى يجيبك بالإيجاب. نادرا ما يقول لك والحسرة تعصر ملامحه "آسف، لا يوجد." لفني الزمن، وأعاد شريط الماضي أمامي. رأيتني واقفة أمام مكتبة "عمي قاسم"، أنتظر دوري، حيث كانت المكتبة تعرف ازدحاما غير طبيعي. سألته عن رواية "لقيطة" للأديب محمد عبد الحليم عبد الله. اختفى بين كتبه وكان يتحرك ببطء شديد بسبب إعاقة في رجله. يتحرك ويتكئ أحيانا على عكازه وأحيانا أخرى على كتبه. عاد "عمي قاسم" وهو يحمل الرواية مع ابتسامة انتصار عريضة. أخذتها وحضنتها بين يدي كأنني أخاف أن يراها أحد. مشيت كثيرا لكي أصل الى البيت. التفت ساعتها حولي، كانت مكتبة "عمي قاسم "مغلقة. بدون ألوانها الزاهية التي كانت تتراقص أمام عينيك على بعد أمتار. دليل على انها مغلقة منذ زمن. حلت محلها صناديق خضر وفواكه، كان صاحبها يصرخ بأعلى صوته عن الثمن حتى يجلب المارة. بالأمس، كانت مكتبة "عمي قاسم" سيدة المكان، كل المواعيد عند "مكتبة عمي قاسم". لكن لمحتني أمشي بخطى سريعة لكي أصل الى البيت وأبدا في قراءتها. اقتربت من بيتنا المتواجد على بعد 3كيلومترات من وسط المدينة. أخذت الرواية ووضعتها تحت ثيابي حتى لا يلمحها أحد، وخصوصا أخي الذي كان يرفض أن أقرأ أي كتب غير الكتب المدرسة. لأنه كان يعتقد ان الكتب تفسد سلوك الفتاة. دخلت خلسة الى البيت، وجدت أمي تسألني عن سبب تأخري، أجبتها بأنني كنت أبحث عن كتاب للمدرسة. "أمي"، رغم أنها لم تلج المدرسة يوما، الا أنها كانت دائما تحفزني على الدراسة. ولجت غرفتي وفتحت أول صفحة من الرواية. وبدأت أقرأ.
ابتعدت عن مكتبة "عمي قاسم" وكلي حسرة على تلك المرحلة حيث كانت المكتبة من أشهر المكتبات بالمنطقة. استوطن المكان ضجيج وفوضى غير طبيعين. اصطف أصحاب بيع الهواتف ولوازمها بشكل قوي كالنباتات الطفلية. انتشرت كالأشواك الضارة وشوهت ملامح المكان. اختفت مكتبة "عمي قاسم".
سافرت مع الرواية التي أخذتني الى عوالم أخرى أكتشفها للمرة الأولى. أعجبتني فكرة شراء أي كتاب واضعه بين ثيابي حتى أصل الى البيت. ثم أهيم بين عوالمه بكل حرية. المرة الثانية التي ذهبت فيها عند "عمي قاسم"، طلبت منه رواية الكاتبة عائشة عبد الرحمان التي كانت توقع أعمالها ببنت الشاطئ. في البداية، كنت أعتقد أنه اسمها، لكن لما علمت بحقيقة اسمها وسبب اخفاءها له. وجدتني أعيش نفس تجربتها لكن بشكل آخر. الكاتبة اخفت اسمها وأنا اخفيت الرواية. وشعرت ساعتها بضعفي وخوفي وبأنني محاصرة فقط لكوني امرأة. لم أفهم ساعتها قسوة هذه العادات والتقاليد التي تكبل انطلاق المرأة وتحاول أن تجعلها سجينة مدى الحياة. كأنها لا تفكر ولا تستطيع أن تسير حياتها بنفسها. قررت ساعتها ألا أخفي كتبي التي أشتريها. لأنني أدركت بأنني ما أقوم به ليس عيبا أو حراما. توالت زيارتي لمكتبة "عمي قاسم" بشكل شهري، حتى أنه كلما رآني، كان يبتسم بشكل هادئ ويقترب مني ببطء كعادته، ويقول لي "ما هو كتابك لهذا الشهر؟" تغيرت رؤيتي للأشياء خصوصا لوضعية المرأة، فقررت قراءة كتب دة. نوال السعداوي، فأنارت لي طريقي وجعلتني أكتشف ذاتي وأعرف بأنني انسان له عقل وروح وجسد. في يوم، وأنا أقرأ أحد كتبها، شعرت بظل خلفي ونفس تطلع وتهبط بسرعة، كمن جرى أميالا. التفت، وجدت أخي. والغضب يتطاير من عينيه. وجلت واحتضنت كتابي بين يدي، كأنني أخاف عليه منه. ارتعشت مفاصلي رغم محاولتي أن أظهر بشكل طبيعي. قال لي بحدة:
- ماذا تقرأين؟
قلت له بصوت خافت:
- كتاب...
انقض على الكتاب ونزعه من يدي بكل قوة وبدأ يتصفحه وقال لي بغضب:
أعرف أنه كتاب. ثم أردف:
- ما هذا؟ من أعطاك هذا الكتاب؟ هذا تسيب.
واخذ الكتاب وطلب من أمي أن تحضر وهو يمسك بالكتاب كأنه يمسك بدليل جريمتي:
- انتبهي الى ابنتك. مثل هذه الكتب ستضيعها.
واختفى الكتاب، وانعقد لساني من هول مما عشته.
فقررت ساعتها أن أعود الى طريقتي القديمة، وهي انني لما أشتري كتابا يعجبني أخفيه بين ثيابي وأقرأه عندما أكون لوحدي، مثل "بنت الشاطئ" حتى تتغير الظروف وأستطيع أن أرفع صوتي.
***
أمينة شرادي