نصوص أدبية
علي فضيل العربي: الطريق إلى حلب
فلتت منه الإجابات فجأة وهو يجرجره بحبل من الأسئلة البريئة، براءة الذئب من دم يوسف، نحو دوائر الحيرة والسراب. هو ابنه الذي لم يتخطَ عتبة ربيعه العاشر. هاديء، خجول. يحب كتاب القراءة والرياضيات والسباحة والفروسيّة. وصلاة العصر في المسجد القريب. لم تشغله أحاديث السياسة يوما. طريّ العود. مازال مذاق حليب أمه في حلقه.
- لماذا يقتلون الأطفال في حلب يا أبتي؟
وقع السؤال عليه كالصاعقة. بهت، كمن شُلّ لسانه.
ثم تأتأ كالمذهول بين أنياب الخطر:
- لا أدري، يا بنيّ.
- كيف لا تدري؟ ومن يدري إذن؟ ألا تقولون أن الكبار يعرفون كلّ شيء؟
- بلى.
- ربما، لأنهم يخافون منهم، أو يكرهونهم؟
- بلى.
- ألا تقولون – أنتم الكبار بأنّنا – نحن الأطفال – ملائكة، وفلذات الأكباد؟
- أجل يا بنيّ. أنتم مرايانا وعيوننا.
- وأطفال حلب؟
- وأطفال حلب أيضا.
و يلوذ الطفل ببرهة صمت. ارتسمت على وجهه معالم التعجب والحيرة. شتّان بين القول والفعل. أيصدق أباه الذي يتقن فن البلاغة العربية، أم يصدق بصره؟ مئات براميل النار والقنابل الحارقة تلقيها الأيدي الآثمة على رؤوس الأطفال في حلب وإدلب وحماة وووو، وهو يقول له بأنكم مرايانا وعيوننا؟ بينما حكّ الوالد رأسه كأنّه يستنهض فكرة نائمة بين شعيراته البيضاء، البالية.
- هل رأيتهم، يا أبتي، كيف يموتون؟
- من؟؟ آه،آه، عفوا، بني، تقصد أطفال حلب؟
- نعم.
- أعمى من لا يراهم.
- هل العالم أعمى؟
- لا ياولدي، كلهم يرون. لكنّهم صامتون.
- بل مجرمون. أليس كذلك؟
- بلى.
- متى يتوقف القصف عليهم؟
- لهم الله أطفال حلب، يا بنيّ. يرى كل شيء في السموات والأرض. وهو السميع البصير.
- هل هؤلاء بشر مثلنا؟
- من تقصد؟
- الذين يقتلون أطفال حلب بطائراتهم وقنابلهم وبراملهم وصواريخهم.
- نعم.
- ولهم قلوب وعيون مثلنا؟
- نعم.
- ولهم أطفال؟
- بعضهم.
- ربما هم كائنات من كوكب آخر، يكرهون الأطفال.
و بسط الصمت جناحيه بينهما. كل في شأنه غارق. ذبلت جذوة الكلام. شعر الطفل المطعون حتى العظم، بأن أباه، قد تحوّل إلى جذع شجرة هرمة تتبوّل عليها الكلاب الضالة كل الكلام الذي تعلّمه في مدرسته لا معنى له. لقنتهم معلمة اللغة العربية والتاريخ أناشيد الوحدة والحب والسلام.
- ( بلاد العرب أوطاني، من مراكش إلى الشام )
وقالت لهم: أن للعرب جامعة، توحد كلمتهم. وللمسلمين منظمة شعارها، الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. وللإنسانية مجلس أمن، ومنظمة متحدة تدافع عن المظلومين، وترد المعتدين. نسيت أن تعلّمهم كيف يحتمون من نيران الإخوة والأعداء. لم تلقنهم سورة يوسف الصديق. لم تقل لهم أن أطفال الوطن الكبير يولدون في الصباح، ليُقتلوا عند الظهيرة.
ما أبعد الكلام عن أطفال حلب؟ سماؤها أزيز وهدير ودخان وطائرات عمياء، مجنونة. ومطرها صواريخ وبراميل معدة للتفجير وقنابل وجحيم.
اكتشف الأب بأنّ ابنه كبُر قبل الأوان. كهل وهو صبيّ. أسئلته الجامحة أكبر من عمره. حاول تغيير مجرى الحديث:
- الامتحانات قربت، يا بنيّ، هل راجعت دروسك جيّدا.
- وأطفال حلب؟ هل راجعوا دروسهم؟
- ممكن....
- هل عندهم مدارس مثلنا؟
- ممكن...
- هل عندهم معلمات ومعلمون مثلنا؟
- ممكن......
- هل عندهم كهرباء ووووو؟
لا تكاد أسئلته تنفد. كأنّه يغرف من بحر. أمّا الأب المعلق من حلقومه، فكان كمن ينحت من صخر غرانيتيّ.
طوقته أسئلة ابنه من كل زاوية. سرت في عروقه رعشة المحموم في جوّ قائظ. هل يصارحه، أنّ السياسة فعل نتن. وأنّها هي سبب كل الحروب التي تقتل الأطفال والأبرياء والنساء. الحرب يا بنيّ تسرق النوم من عيون الأطفال. الحرب لا ملة لها. طعمها مرّ، مرّ..
تمنى في قرارة نفسه، أن يسكت الطفل. فهو يؤجج همّه، ويزجي لهيب ألمه.
ردد في سرّه:
- آه، لو تنام يا ولدي، وتريح قلبي من أوجاع الأسئلة.
لكنّ الطفل مازال – على ما يبدو – في أول الطريق.
-2-
من سينقذه من عذابات السؤال تلو السؤال. حلب تحترق بنيران الأبناء والأعداء. وهو يحترق بنيران الأسئلة والذل والهوان والخذلان. كأنّ أطفال حلب من كوكب آخر غير كوكب الأرض. كأنّهم أعداء الإنسانية. هل هم من لحم ودم وعظم أم هياكل بلا
روح؟ من ورق الكرتون؟ إنهم بلا ماء، ولا أرز، ولا خبز. ولا كهرباء، ولا أمن. سرقوا لعبهم وأراجيحهم. هو المواطن المقهور، الغارق في يوميات البحث عن أكياس الحليب لثمانية أفواه، لم تشبع من خبز الوطن. ما أوسع الوطن، وما أخصب تربته. لكن الخبز قليل، والماء شحيح. وهل لشعب لا يزرع، ولا يحصد، ولا ينسج، كرامة وعزة؟ أيقول لابنه الحقيقة؟ كل الحقيقة، بأن أطفال حلب يُقتلون بأيدينا. طائرات الأعداء وسفنهم وبوارجهم، من حديد أرضنا. طيرانها وإبحارها من بترولنا وغازنا. أيكشف له فضائح خير أمة أُخرجت للناس. لا مناص. سيكشف الزمن ما خبأته الأنفس المعتلة. أيفصح له عن حجم المرارة التي تتربع على القلب؟ إن بقيّ له قلب. كان حلمه أن يحيا مصون الوجه في وطن لا يٌظلم فيه حجر، ولا تعثر فيه عنزة بجبال اليمن أو الأوراس أو الأطلس أو الجولان. ولا يغرق فيه مركب بنهر النيل أو الفرات أو دجلة. ماذا يقول؟ المصائب كثيرة، قديمة. متجذّرة. منذ عليّ ومعاوية.
لا يريد أن ينكأ الجراح. أمم تصعد نحو العلا، وصعودنا نحن نحو الأسفل.
أيقول له:
بأننا عاجزون عن مجاراة السلحفاة، لأننا نسير وأعيننا معلقة إلى الخلف. نحن، يا بنيّ، عمي، بكم، صمّ، خونة، لا نستحق الحياة. كائنات زائدة، فضلة، على الأرض.
و أيقظه ابنه من غفوته تلك.. حكّ عينه اليمنى. برقت في مآقيه بقايا دموع. حوقل واستغفر ولعن الشيطان.
- أكنت تبكي يا أبتي؟
- معاذ الله الرجال لا يبكون. البكاء للنسوة.
- وأين الرجال يا أبتي؟
- هم في كل مكان.
- أين رجالنا نحن؟
- في بيوتهم، مع أطفالهم.
- ولماذا لا يحمون أطفال حلب؟
- سيحمونهم إن شاء الله.
- متى، متى؟
- عن قريب.
- هه، قل لي:
ـ سيحمون قبورهم، إن وُجدت، وفي كل عام يحيون ذكراهم.
نظر صوب الساعة الحائطية، وقال:
- انتصف الليل يا بنيّ. ألا تنام؟
- وهل نام أطفال حلب، لأنام؟
أخرسه الألم. كلمات ابنه خنجر مسموم. حبل مشنقة شديد الفتل. كل المنافذ سُدّت في وجهه. ما السبيل إلى النجاة؟ هل يدعي النعاس، وينام؟ هل يتمارض، ويدلف إلى المرحاض، ولا يغادره حتى الصباح؟ أم يخرج من البيت، ويهيم على وجهه حتى الضحى؟ ولا ضير إن عضّته كلاب الحيّ. فإنّ عضاتها أرحم من مطارق ابنه. أويقبض الله روحه. أليس الموت راحة من الخزي والعار؟
- ما بك يا أبتي ساكت لا تجيب؟
أيقول له:
- إنّ السكوت في مثل حالته من ذهب. بماذا يجيبه؟
عاد كفارس أعزل. لا سلاح، لا درع يقيه من سهام ابنه.
و وقع السؤال عليه تارة أخرى كالصاعقة.
- متى تنتهي الحرب في حلب؟
- عن قريب.
- ومن أخبرك بذلك؟
- لكل حرب نهاية.
- عندما يموت كل أطفال حلب. أليس كذلك؟
كاد يغص من حجم السؤال. ابتلع ريقه، كمن أنقذته يد خفية من سقطة مميتة في هوة سحيقة
- سيحميهم الله من عباده الأشرار.
- هل الله موجود في حلب؟
- أستغفر الله. إنّ الله موجود في كل مكان، يعلم ما نسّر به وما نجهر.
- إذن سيحميهم الله يا أبتي.
- يقول للشيء كن فيكون.
ابتسم الطفل ابتسامة عريضة. حمد الأب الله في سرّه. هو يعلم أنّ بذكر الله تطمئنّ القلوب وتعمر الأنفس إيمانا ويقينا.
- بدت لي فكرة يا أبتي.
- ما هي؟
- أريد الذهاب إلى حلب.
- الطريق إلى حلب بعيدة. وماذا ستفعل في حلب؟
- أريد أن أحمل لأطفال حلب لعبي ومحفظتي وكراريس وأقلام.
- نعم الفكرة يا بنيّ. لكن....
- لكن ماذا؟
- نرسلها بواسطة الطرد أفضل.
أنهكته الأسئلة. انقضى من الليل ثلثاه. وقد بدأ الفجر ينشر خيوطه البيضاء من شرفات الكون. بدا الطفل متحفزا للفكرة.
قال بإصرار وعزيمة:
- غدا نرسل الطرد يا أبتي.
- غدا، يوم جمعة.
- إذن بعد غد.
- نعم.
و آوى الطفل إلى فراشه. بينا بقي الأب يجتر آلامه في صمت وحيرة. ينتظر رحيل آخر قوافل الليل. لقد كان أطول ليل في حياته، كأنّ نجومه جمال تمردت على الحادي.
(تمت)
***
قصة قصيرة
بقلم: الناقد والروائي علي فضيل العربي – الجزائر