شهادات ومذكرات
ناجي ظاهر: الإميل الأصيل

قدّم بحياته، مواقفه وكتاباته، صورةً لإنسانٍ فلسطيني مُثقّف، لا يريد أن يُغرّد داخل السرب، رغم أنه كان من قياديه، ولا يعبأ بما يراه الآخرون مِن رأي مُخالف لرأيه، كان مستقلًا برأيه، وأعرب عنه بجُرأة وشجاعة نادرين، مُقدّمًا بذلك صورة لمثقف جسور، صاحب صورة مستقلة، علمًا أنه كان يعي تمام الوعي أنه قد يدفع ثمنًا غاليا جرّاء شجاعته تلك، وبغض النظر عمّا إذا كان مُخطئًا كما رأى رفاقُه، أو مُصيبًا كما رأت قطاعات واسعة من شعبه آنذاك، فقد كان مُستعدًا لدفع الثمن، ممثّلًا بالإبعاد والإقصاء عمّا هو جديرٌ به من مواقع قيادية، أثبت أنه قدّها وقدود، وسبق له في مجالها أكثر من تجربة ناجحة. وهكذا كان.
الدكتور إميل توما( 1919- 27-8-1985)، لم يعش كما يلاحظ الأخ القارئ أكثر من 64 عامًا، حياة قصيرة، لكن عميقة، وقد عاش أحداثًا جسامًا، على المستويين العام والخاص، فعلى المستوى العام، شهد الكثير مِنَ الاحداث بلغت ذروتها سقوط بلاده بأيدي محتليها، وعلى المستوى الخاص لم يقف مكتوف اليدين، وبإمكان مّن يطّلع على تفاصيل حياته ونضالاته من اجل التنظُّم، لتحصيل الحقوق، يلاحظ دون كبير عناء، أنه أدى دورًا لا يُستهان به، سواء في مشاركته بإقامة هذا التنظيم النقابي، أو تلك العُصبة التحررية، بل إنه كان مِن أبرز المبادرين للنضال بالكلمة والقلم، ويُحسبُ له في هذا أنه كان المُحرّر المسؤول للصحيفة الوطنية الرائدة "الاتحاد"، منذ تأسيسها الأول غي حيقا عام 1944.
تعرّفت إليه عن قرب خلال زياراتي لمكاتب مجلة الجديد في حيفا، وما زلت أذكر، وهل أنسى، تلك الجلسات التي كانت تعقد تلقائيًا ويشارك فيها الاخوة المرحومون حاليًا، من العاملين في المجلة، واذكر منهم الكاتب الصديق سلمان ناطور والشاعر الصديق أيضا سميح صباغ، كان ذلك في أواسط السبعينيات، وكانت القضايا حارقة ومتوترة لا سيما قضايا الأرض التي تتوّجت عام 1976 بمواجهات ضارية بين الأهالي في مثلث يوم الأرض سخنين، عرابة ودير حنا، وبين القوات الإسرائيلية الرسمية، وذهب ضحية لها ستة من المواطنين هناك، قضوا شهداء، وفي هذا السياق أذكر أن إميل توما، طابت ذكراه، كان إلى جانب رفاقه في مقدمتهم الكاتب الصحفي المثقف صليبا خميس، شُعلة متّقدة مِنّ الحماس من أجل تكريس يوم الأرض يومًا نضاليًا جماهيريًا، ما زالت الاحتفالات بإحيائه متواصلة بهمة لجنة الدفاع عن الأراضي.
كتب إميل توما المقالة التاريخية، الاجتماعية، السياسية والأدبية، وأصدر أو أُصدر له في حياته وبعد رحيله، أربعة عشر كتابًا، توزّعت على المواضيع المذكورة، وقد صدرت فيما بعد بين عامي 1995- 1997، عن المعهد الذي أقيم على اسم إميل توما في حيفا، وذلك في خمسة مجلدات، لقد تركت كتابات إميل توما المنشور بعضها مُنجّمة في صحافة الحزب الشيوعي ، والصادرة فيما بعد في أربعة عشر مؤلفًا، اثرًا كبيرًا على القراء المعنيين والمُهتمين، وأدت رسالتها الثقافية الوطنية، وما زالت وسوف تؤدي هذه الرسالة، إلى آماد بعيدة. بما أن فترة مديدة انقضت على رحيل هذه القامة الثقافية الوطنية السامقة، وأن أجيالًا تعاقبت منذ رحيله، أعتقد أنه مِن المطلوب والضروري، أن نُعيد ذكراه كاتبًا، مثقفًا سياسيًا، تاريخيا وأدبيًا نقديًا تحديدًا. فيما يلي نتحدّث باختصار نرجو ألا يكون مُخلًّا عن إميل توما في جوانبه المُضيئة التي أدت دورها في إنارة زوايا معتمة ماضيًا، حاضرًا و.. مستقيلا.
المؤرخ: بإمكان مَن يطّلع على كتابات طيب الذكر إميل توما، مُلاحظة أنه كرّس نسبة كبيرة من كتاباته للتعريف بالقضية الفلسطينية، جذورها العميقة وآفاقها..، بالإضافة إلى توسيع دائرة دراسته هذه بالبحث في التطور التاريخي في الشرق الاوسط، وها هو يقدّم دراسة جدية عن السياسة الامريكية في الشرق الأوسط، وقد اثارت القضايا التاريخية القريبة والبعيدة اهتمامه فكتب عن ثورة 23 يوليو/ تموز العربية المصرية. وقد قام بهذا كلّه مِن مُنطلق المسؤولية نحو أبناء شعبه، من الأجيال الصاعدة والآتية مُستقبلًا، فقد كان يعرف ما للتاريخ مِن أهمية في المحافظة على الذاكرة الجمعية يانعة خضراء، ولما لها من دور في إبقاء الوعي العامّ لأبناء الشعب صاحيا، يقظًا ومُتنبّهًا. هكذا نلاحظ أنه أبدع في فهمه للكتابة التاريخية، كونه رأى فيه قوة محفزة على مواصلة النضال مِن أجل العيش الحر والكرامة الوطنية والإنسانية لأبناء شعبه.
الكاتب المجتمعي: يبرز كتاب طيّب الذكر إميل توما عن الحركات الاجتماعية في الإسلام، إضافة إلى كتب أخرى منها كتاب عن العملية الثورية في الاسلام، وآخر عن طريق الجماهير العربية الكفاحي في إسرائيل، وغيرها من المؤلفات المماثلة في مواضيعها وتوجّهاتها، تبرز هذه الكتب علامات مميزة في مسيرة هذا المؤرخ المفكر المسؤول الذي عرف ما هو مطلوب منه للمشاركة في معارك أبناء شعبه ومواجهاتها من اجل الفهم المتعمّق للماضي والحاضر أيضًا، ولنشر الوعي بالتالي، تعميقُا للرأي والرؤية، بهدف المحافظة على شُعلة النضال متّقدة حتى التحرّر واستعادة الكرامة المهدورة. هنا أيضًا نلاحظ أن اميل توما كتب، مُتعمّقًا ورائيًا في الحركات التقدمية والثورية في التاريخ العربي، نقطة محفزة على مواصلة النضال، فما نقوم به، ليس وليد الفترات الراهنة وحسب، وانما هو مُدعّم بتاريخ غني، كان له عُمقه وكانت له تضحياته التي أنارت الطريق.
السياسي: أعتقد أن هذا الجانب في شخصية كاتبنا المُتذكّر، هو الجانب المركزي، فهو في كلّ ما كتبه، هدف إلى المحافظة على الذاكرة، وبعث الوعي عبر العودة إلى الماضي وتسجيل ما هو مُشرق فيه، بل إنه، كما سنلاحظ فيما يلي، أراد عندما كتب النقد الادبي إلى المحافظة على الهوية، والالتصاق بالواقع النضالي للناس المظلومين والمخذولين من أبناء شعبه، من هذا المنطلق بإمكاننا العودة إلى ما افتتحنا به مقالتنا هذه، فقد تصدّى أميل توما، لإقامة دولة إسرائيل، ورأى فيها وليدا إمبرياليًا، في المنطقة، غير آخذ براي زملائه الشيوعيين في البلاد، والقيادات السوفيتية وغيرها من القوى العالمية التي اعتقدت ورأت أن إسرائيل إنما تُريد إقامة الدولة الاشتراكية في منطقة الشرق الاوسط. لقد أعقب اميل توما رايه هذا براي آخر هو رفضه لقرار التقسيم، وهو ما دفّعه الثمن غاليًا بإقصائه عن الكثير من المواقع القيادية التي لاقت به ولاقى بها.
الناقد الادبي: كتب إميل توما عددًا ليس كبيرًا من المقالات النقدية الأدبية، ونشرها في صحافة حزبه الشيوعي، وقد قامت إدارة معهد اميل توما، برئاسة الكاتب المرحوم أحمد سعد في حينها، أواسط التسعينيات الأولى( 1993 بالتحديد)، بجمع هذه المقالات وأصدرتها في كتاب وضعت له عنوانًا دالًّا هو مقالات في النقد الادبي، وقد تابع كاتب هذه السطور كتابات إميل توما النقدية حين نشرها في الصحف والمجلات أولًا بأول، وكان أكثر ما لفت نظره واهتمامه فيها أنها انطلقت مِن رؤية واضحة، تحرص على أهمية بُروز الهُوية الإنسانية والوطنية في الكتابات الأدبية المنقودة، وأذكر منها كتابات للكاتب الراحل مصطفى مرار ابن قرية قلنسوة القائمة في المثلث الجنوبي، ولعلّ أبرز ما دعا إليه كاتبُها فيها هو الصدق، ولم يكن ضد الغموض الشفّاف الذي يتطلّبه كلّ ابداع أدبي مُتعمّق وأصيل. ومما يُذكر عن إميل توما أنه كان مُهتمًا شديد الاهتمام بالشأن الادبي، على اعتبار أنه أداة نضالية لا يُستهان بها. وكان دائم المُتابعة لكلّ ما يُكتب ويُنشر في مجال النقد الادبي، ومما أذكره في هذا المجال أنه قال لي في أحد لقاءاتنا في مكتبه، إنه يقرأ ما أكتبه، وما يكتبه آخرون، في مجال النقد الادبي وأنه يروق له، مُضيفًا أن الفترة التي نعيشها، في حينه طبعًا، فترة مناسبة للكتابة والنقد الادبي الهادف والمُتعمق، وهو ما يُرضيه ويجعله ينظر إلى المستقبل بعين الرضا.
مُجمل القول إن أميل توما كان شخصية ريادية في العديد من المجالات الثقافية، التاريخية، الاجتماعية، السياسية والنقدية الأدبية، وانه كان صاحب رسالة، وينطلق في كلّ ما يتخذه من مواقف ومن كتابات وتآليف في التاريخ، والمجتمع، السياسة والنقد الادبي، من رسالته الوطنية هذه، فلتتخلد ذكراه.
* مؤلفات اميل توما:
* العرب والتطور التاريخي في الشرق الأوسط، دار «الاتحاد»، حيفا، 1960
* ثورة 23 تموز في عقدها الأول، دار "الاتحاد"، حيفا، 1962.
* جذور القضية الفلسطينية، حيفا، 1968.
* السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، مطبعة «الاتحاد»، حيفا، 1973.
* يوميات شعب، (30 عاما على «الاتحاد»)، عربسك، حيفا، 1973.
* ستون عاما على الحركة القومية العربية الفلسطينية، البيادر، القدس، 1978.
* الحركات الاجتماعية في الإسلام، منشورات صلاح الدين، القدس، 1979.
* العملية الثورية في الإسلام، دار الفارابي، بيروت، 1981.
* طريق الجماهير العربية الكفاحي في إسرائيل، أبو سلمى، 1982.
* فلسطين في العهد العثماني، الفجر، القدس، 1983.
* الحركة القومية العربية والقضية الفلسطينية، الأسوار، عكا، 1984.
* تاريخ مسيرة الشعوب العربية الحديث، الأسوار، عكا، 1985.
* الصهيونية المعاصرة، الأسوار، عكا، 1985.
* منظمة التحرير الفلسطينية، دار «الاتحاد»، حيفا، 1986.
* مقالات أو/ مختارات في النقد الأدبي، دار «الاتحاد»، حيفا، 1993.
* * *
ناجي ظاهر
.................
* من كتاب شخصيات في الذاكرة الماثل للطباعة.