شهادات ومذكرات
علي حسين: في ذكرى رحيله.. فؤاد زكريا.. الطريق الى الفلسفة

(إن اكثر الناس "يقينا" هم عادة اكثرهم جهلا)
من كتاب "التفكير العلمي"
عاش حياته، وهو يؤمن ان مهمة المثقف والكاتب هي أن لا يقف محايدا أو صامتا، وان يستخدم فكره ومنهجه في ايضاح الامور التي تعرض على الناس بغموض متعمد او بغش او خداع "، وهو يقول في حوار مع إمام عبد الفتاح امام نشرته مجلة العربي عام 1987: " استغرب ان يقضي الاستاذ الجامعي سنوات عمله الاكاديمي صامتا، في الوقت الذي يتعرض فيه وطنه لأخطار عاجلة وسريعة لا تحتمل التاخير"..
يتخذ من الفلسفة وسيلة لاشاعة مفاهيم العدالة والحرية، وهو يرى ان الفلسفة انعكاسا للواقع الذي يعيشه الانسان، وان عدم وجود فلسفة عربية معاصرة يعود الى تخبط واقعنا وعدم استقراره: " فالفلسفة ليست بناء يرتكز على فراغ، وليست قصورا تشيد في الهواء، بل انها تحتاج إلى واقع صلب تستند اليه، ولا يمكن ان تستقيم إلا إذا استقام الواقع الذي تعبر عنه " - " آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة" – يجد فؤاد زكريا ان وسيلتنا للخروج من مأزق التخلف هي بالرجوع الى الدور الذي تستطيع الفلسفة ان تقوم به في حياتنا، واتاحة الفرصة للفكر ان يعبر عن نفسه بحرية، وان تصبح له قوة فاعلة مؤثرة في حياتنا، فتجاهل حرية الفكر لم تجلب لنا حسب راي فؤاد زكريا سوى الاندفاع اللاعقلي وراء المغامرات واشاعة التخلف: " إذا شئتم حلا للمشكلات الكبرى التي تشغل تفكير الانسان العربي، فلن يكون ذلك بالاستخدام النظري الخالص للعقل، بل باستخدام العقل استخداما عمليا وعينيا ".
الصبي الذي كان مبهورا بمنظر الجنازات العسكرية التي تمر من امام بيتهم، سحرته الموسيقى التي تخرج من الآلات النحاسية، قرر ذات يوم أن يصبح موسيقيا، تعلم العزف على آلة " الماندولين "، واخذ دروس في قراءة النوتة الموسيقية، في الليل يستفرد براديو العائلة يبحث فيه عن محطات إذاعية أجنبية تذيع برامج موسيقية كلاسيكية. كان قد عثر على كتيب صغير باللغة الانكليزية عن الموسيقار الالماني الشهير فاغنر، اعتبره احد الاكتشافات الباهرة في حياته، سيدله فاغنر على الفلسفة، يقرأ كتابات نيتشه وشوبنهاور، يجد عند صاحب " هكذا تكلم زرادشت " كيف تمتزج الفلسفة في الحياة وأنه: " يتفلسف بكيانه كله، وبوجوده الكامل، ولا يتفلسف نظريًّا، أو يفكر في مشاكل تجريدية جامدة فقدت صلتها بالحياة. " – فؤاد زكريا نيتشه -
يتذكر انه كتب مخطوطة حول الموسيقى وتاثيرها على الفلاسفة. كان في السابعة عشر من عمره. في الجامعة التي دخلها عام 1945 طالبا في قسم الفلسفة، اخذت الفلسفة تاخذ مكان الموسيقى في حياته، آنذاك كانت الجامعة حلما ورديا بالنسبة الية، وكانت صورة الجامعة عنده تلك التي قرأ عنها في سيرة كانط وهيغل، الاهتمام بتنمية المعارف، ومنذ تلك اللحظة اصبحت الفلسفة الأداة الحقيقية في حياته، وسيجد في زكي نجيب محمود معلما من طراز خاص، يكتب عنه فيما بعد: " لقد جاء هذا الأستاذ ونحن طلبة بالسنة الثالثة، أي بعد ثلاث سنوات من الدراسة الفلسفية، يحمل إلينا أفكاراً غير تقليدية، تخالف ما درجت عليه دراستنا قبل وجوده، جاء هذا الأستاذ ليعطينا صدمة فكرية كانت ضرورية لنا في هذا الحين لكي نعرف أن الفلسفة ليست اتجاهاً واحداً وليست إتباعاً لأي نوع من التقاليد والتراث. لقد جاء إلينا زكي نجيب محمود وهو مشبع بالأفكار الجديدة الثورية التي أثرت علينا تأثيراً كبيرا". في مقابل زكي نجيب محمود كان هناك عبد الرحمن بدوي الاستاذ الصارم المتشبع بالفلسفة الوجودية، وسيندهش الطالب بسعة ثقافة استاذه بدوي واتساع معلوماته وغرامه بنيتشه. كان فؤاد زكريا قد قرأ كتاب بدوي عن نيتشه، الذي كان يريد تحويل نيتشه الى رمز للشباب وبطل اسطوري يقدم نموذج " الانسان الاعلى " وسُيفاجئ استاذه بدوي بان يقدم له بحثا عن " النزعة الطبيعية عند نيتشه"، يتحول هذا البحث فيما بعد الى رسالة ماجستير، ومن ثم الى كتاب صدر عام 1956. يخبرنا فؤاد زكريا في مقدمة كتابه " نيتشه " ان له قصة مع نيتشه بدات عام 1960 عندما قدم للجامعة بحثاً بعنوان " النزعة الطبيعية عند نيتشه " حاول ان يعرض فيه فلسفة نيتشه عرضا موضوعيا، وهو يقول بعد ذلك انه: " اليوم عندما يعود إلى هذا البحث يسأل نفسه كيف امكنني ان اوافق نيتشه على آراءه هذه، ذلك ان صوت نيتشه الذي بدا لي في ذلك الحين معبرا عن موقف الانسان في عصرنا الحالي تعبيراً اميناً. اصبح اليوم يبدو لي بعيدا عن هذا الموقف كل البعد. اصبح مجرد صدى خافت، لا يلبث ان يتلاشى "، ويضيف زكريا انه اخذ يفكر في هذا التغيير الذي طرأ علي نظرته الى نيتشه، لكنه سيكتشف انه برغم اختلافه الفكري مع صاحب " هكذا تكلم زرادشت "، فانه يجد نفسه امام مفكر ثائر على الافكار والمثل السائدة، يدعو الى تحطيمها بقوة وعنف، وعندئذ لا يجد المرء خيراُ من نيتشه في ثورته، ولن يجد عونا له خيرا من مطرقته التي هدم بها اصنام العصر.
انتمى فؤاد زكريا المولود في الاول من كانون الاول عام 1927 في مدينة " يورت سعيد " الى اسرة من الطبقة المتوسطة، اكمل دراسته في مدينته، وانتقل الى القاهرة عام 1945 طالبا في جامعة القاهرة، كلية الاداب قسم الفلسفة، تخرج عام 1945 وكان الاول على دفعته، ثم نال الماجستير ثم حصل الدكتوراه من جامعة عين شمس عام 1956، عين مترجما في الجامعة ثم استاذا و رئيساً لقسم الفلسفة بجامعة عين شمس حتى 1974 وترأس تحرير مجلتي " الفكر المعاصر " و " تراث الانسانية "، انتقل الى الكويت حيث مارس التدريس وتولى منصب مستشار تحرير سلسلة عالم المعرفة الكويتية.
الفلسفة لدى فؤاد زكريا ارتبطت بدوره كمثقف في المجتمع، فهو لم يكتف بالترجمة وكتابة المؤلفات والمقالات الفلسفية، بل اهتم بالشأن الثقافي والسياسي واصدر العديد من الكتب ابرزها: الحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية المعاصرة، خطاب إلى العقل العربي، وكتاب مغامرة التاريخ الكبرى تناول فيها تجربة غورباتشوف وانهيار الاتحاد السوفيتي، وكتاب الصحوة الإسلامية في ميزان العقل. و" كم عمر الغضب (رد على كتاب خريف الغضب للكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل). وكتاب عبد الناصر واليسار المصري، وكتاب العرب والنموذج الامريكي، وجميع هذه الكتب تدلنا على شخصية فؤاد زكريا الاستاذ والباحث والمشارك في الاحداث السياسية والاجتماعية والفكرية من خلال تبني افكار تدعوا الى الاصلاح الاجتماعي والسياسي والثقافي وتؤمن بأهمية التفكير النقدي العقلاني الذي يعتبره قاسما مشتركا بين كل ما قدمه من كتابات، وما قام به من مشاريع ثقافية، وكان دائما ما يرى أن الانسان العربي تعرض لهجمات كثيرة جدا ومن جوانب متعددة على انسانيته ووعيه، وهو يرى ان مهمة الكاتب والمثقف هي في المساعدة على صد هذه الهجمات، وهذا العدوان الذي يريد ان يفرض نفسه على الانسان في ميادين متعددة. ولهذا نراه يكتب في احدى مقالاته: " اعتقد انني طرحت في كتبي ومقالاتي كثيرا من المواقف التي أؤمن بها إيمانا عميقا "، يرفض فؤاد زكريا ان يجعل من الفكر نوعا من انواع الدعاية السياسية او الثقافية، لكنه في الوقت نفسه يرفض ان يعزل المثقف نفسه عزلا تاما عن مشكلات المجتمع، فهو حريص على ان يسعى الكاتب الى العمل على ربط المشكلات التي يعالجها في كتاباته مع واقع الانسان الحديث وواقع المجتمع الذي يعيش فيه الكاتب. ومن هذا المنطلق نجد فؤاد زكريا يختار الموضوعات التي تهم العصر الحاضر، واذا طالعنا الترجمة المتميزة التي قام بها لكتاب هانزر يشنباخ " نشأة الفلسفة العلمية " سنقرأ في المقدمة هذه الملاحظة المهمة التي تشير بوضوح الى منهج فؤاد زكريا في اختيار موضوعاته فهو يقول: ": أستطيع أن أعد ترجمتي لهذا الكتاب عملاً صحيح التوقيت. فالكتاب يعرض وجهة نظر فيلسوف من أكبر ممثلي المذهب الوضعي المنطقي، وذلك في وقت شغلت فيه المعركة الدائرة بين أنصار هذا المذهب وخصومه صفحات غير قليلة من مجلاتنا الثقافية، بل من جرائدنا اليومية أحياناً "، وهذا ما سنجده ايضا في اختياره لموضوع التفكير العلمي، حيث قدم كتابا رائدا في هذا المجال بعنوان " التفكير العلمي " صدر عن سلسلة عالم المعرفة، فقد كان يرى ان غياب التفكير العلمي هو السبب الابرز فيما نعاني منه من مشكلات حضارية، حيث غياب هذا النوع من التفكير شجع على شيوع انماط من التفكير اللاعقلاني الذي غيب الوعي واشاع الخرافة يكتب في مقدمة "التفكير العلمي": " في اعتقادي أن موضوع التفكير العلمي هو موضوع الساعة في العالم العربي، ففي الوقت الذي أفلح فيه العالم المتقدم - بغض النظر عن أنظمته الاجتماعية - في تكوين تراث علمي راسخ امتد في العصر الحديث طوال أربعة قرون، وأصبح يمثل في حياة هذه المجتمعات اتجاهاً ثابتاً، يستحيل العدول عنه أو الرجوع فيه، في هذا الوقت يخوض المفكرون في عالمنا العربي معركة ضارية في إقرار سبيل أبسط مبادئ التفكير العلمي، ويبدو حتى اليوم، ونحن نمضي قدماً إلى السنوات الأخيرة من القرن العشرين، أن نتيجة هذه المعركة مازالت على كفة الميزان. بل قد يخيل إلى المرء في ساعات تشاؤم معينة أن احتمال الانتظار فيها أضعف من احتمال الهزيمة ".. ومثلما آمن فؤاد زكريا بقيمة العلم وسعى الى اشاعة التفكير العلمي، فانه وجد في الفلسفة غاية سامية وهي اعلاء شأن العقل، فالفلسفة في نظر زكريا خلقت لتجيب عن اسئلتنا وفي نفس الوقت تدفعنا للسؤال عن الانسان ومصيره.
في الحادي عشر من آذار عام 2010 يعلن عن وفاة فؤاد زكريا، وكان قد تعرض الى ازمة مرضية ادت الى ابتعاده في الاشهر الاخيرة من حياته عن المشاركة في الحياة الثقافية، ليسدل الستار على صفحة مضيئة من صفحات تاريخنا الثقافي كان فيها فؤاد زكريا يعمل في الفلسفة وعينه على مشكلات المجتمع، مؤمنا أن هدف المفكر والمشتغل في الفلسفة هو تنوير عقول الناس والمساعدة على تطهيرها من كثير من الشوائب الضارة، وتنبيه الناس على مشاكل لكي يكونوا منتبهين اليها.
***
علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية