شهادات ومذكرات
فايزة محمد: تونس بعيون عُمانية
للسفر 7 فوائد كما يقولون، واحدة منها أن يتعرف الإنسان على عادات وتقاليد وأخلاق البلدان الأخرى، يقتبس منها ويتعلم أمورا جديدة مرتبطة بهذه البلدان، وهذا هو السبب الذي كنت وما زلت أعشق السفر لأجله، حيث أطلع على الثقافات والحضارات حول العالم، أجوب المدن والبلدان لأتعرف على عاداتها وتقاليدها، أزور قلاعها وحصونها ومكتباتها ومتاحفها، أتجول بين طرقاتها وشوارعها وأطالع بعيني عادات وتقاليد سكانها من الرجال والنساء والأطفال.
ومن الدول التي كنت أتمنى زيارتها والتنقل بين مدنها والاستمتاع بطبيعتها وجمالها الساحر، دول المغرب العربي لما تملكه هذه البلدان من تراث ثقافي وتاريخ حضاري يمتد لآلاف السنين، وخاصة تونس الخضراء التي تستحوذ على مكانة خاصة في قلبي ونظرا لما تحتضنه من مؤسسات ثقافية وأكاديمية أنجبت الكثير من الفلاسفة والمفكرين بمختلف فروع المعرفة.
وها هي الفرصة أتت بعد أن تم ترشيحي لرئاسة وفد الجمعية العمانية للكتاب والأدباء خلال مشاركته في "الأيام الثقافية العمانية" بالفترة من 28 أبريل إلى 2 مايو المنصرم، ووافقت رغم مشقة الرحلة إذ لا توجد خطوط جوية مباشرة بين الدولتين، فلا بد أن تتخلل الرحلة محطة ترانزيت في إحدى العواصم كالدوحة أو أبوظبي أو حتى إسطنبول.
على متن الخطوط التركية كانت وجهة الترانزيت هي إسطنبول، واستغرقت الرحلة من مسقط إلى هناك قرابة الخمس ساعات، وبعدها رحلة أخرى لمدة ساعتين ونصف الساعة وصولا إلى تونس، بالإضافة إلى مدة الانتظار في الترانزيت لمدة ساعتين كاملتين، ليصل الوفد أخيرا بعد 12 ساعة إلى تونس.
وعلى الرغم أن هذه الرحلة كانت طويلة وشاقة، إلا أنها لم تمنعني من المشاركة في فعالية ثقافية بالمجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون "بيت الحكمة" في نفس اليوم، حيث استمتعنا بسماع باقة من أجمل الأغاني العربية.
أحرص دائما على السفر، أن تكون غرفة الفندق التي أقطنها مطلة على الشارع للتعرف على حياة مواطني البلد التي أزورها، أحب السير في الشوارع والطرقات، وخصوصا إذا كانت غرفة الفندق تطل على ساحة شهيرة ومعروفة، هذا الأمر يتيح لك التعرف على نمط الحياة في هذا البلد، ومن النظرة الأولى يمكنك استنباط طبيعة المجتمع هل هو مجتمع ينبض بالحركة والحيوية أم لا.
وخلال زيارتي لتونس، حرصت على هذا الأمر، فقد كانت غرفتي بفندق أفريقيا وهو أحد أكبر الفنادق في تونس، كانت مطلة على شارع الحبيب بورقية، وهو شارع غني عن التعريف ومن أشهر شوارع العاصمة تونس، وقد اطلعت قبل عدة أيام على صور تعود إلى عشرينيات القرن المنصرم لهذا الشارع العريق، الذي يرجع تاريخ تأسيسه إلى زمن الاحتلال الفرنسي، كما أنه شهد أكبر تظاهرة في أحداث الثورة التونسية أو ما تسمى بـ"ثورة الحرية والكرامة"، حيث احتشد آلاف المتظاهرين وهددوا بالتوجه إلى القصر الرئاسي مما تسبب في مغادرة الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي تونس.
تونس بلد جميل بشعبها وثقافتها وتاريخها وأسواقها ومثقفيها وشوارعها وأسواقها وشواطئها ومقاهيها التي تمتد على طول ساحة الحبيب بورقيبة، دولة نابضة بالحياة وشعبها كريم ومضياف يستقبل ضيوفه بكل حفاوة وترحيب، لم أشعر لحظة واحدة أنني غريبة في هذا البلد، بالعكس لقد شعرت بالأمان وكأنني واحدة منهم، رغم الظروف الاقتصادية التي يمر بها هذا البلد منذ أحداث ثورة 2011، وما تلتها من انعكاسات اقتصادية أثرت بالسلب على السياحة التي تشكل مصدر دخل هام للبلاد.
في تونس تجد المجتمع الحداثي الذي يسعى إلى إقامة نوع من التوافق في مختلف مناحي الحياة، والذي يعيش الحياة للتعبير عن الفكر والآراء بكافة التفاصيل ، وتجد أيضا المجتمع التقليدي الذي يعتز بهويته التراثية ويعبر عنها في مجمل تفاصيل حياته، ومع هذا الاختلاف تجد الجميع يعيش في سلام وتعايش مدني يعملون جنبا إلى جنب، وهذا لا يعني بالتأكيد عدم وجود بعض الأحداث المؤسفة التي يتسبب بها بعض المتطرفين الذين يرفضهم المجتمع التونسي بجميع فئاته وتوجهاته الفكرية والثقافية، لكن يبقى الأمان حاضرا في كل مكان، حيث يشعر السائح بالراحة والطمأنينة ويقضي وقتا ممتعا للاستمتاع بالحياة والجمال والطبيعة الساحرة، وأيضا المرأة التونسية لها وجود بارز في جميع مناحي الحياة، تجدها في كل مكان شعلة من الحيوية والنشاط.
كعادتي أحرص على زيارة المناطق والأماكن التراثية لأشم عبق التاريخ، فكانت زيارتي للسوق القديم الذي يقع على بعد عدة أمتار من الفندق، إنه سوق يعج بالحركة وينبض بالحياة وتمتزج فيه الأصالة مع الحداثة، لم أجد مضايقة أو إزعاجا من قبل الباعة وهو الأمر الذي أعجبني كثيرا، لا يوجد من يلح عليك بالشراء، بل يتركك تقتني ما شئت من البضائع المعروضة المتنوعة بين أشياء تراثية وشعبية وغيرها، لقد وجدت ترحابا كبيرا من جميع العاملين السوق، كما سنحت لي الفرصة أن أتعرف على عدد من الباعة القادمين من جزيرة جربة الواقعة على بعد 529 كيلومتر جنوب العاصمة تونس، الذين رحبوا بنا كثيرا خاصة عندما علموا أننا من سلطنة عمان.
الأمر الذي لاحظته أيضا خلال رحلتي في تونس والتجول من منطقة إلى أخرى ومدينة تلو الأخرى كسيدي بوسعيد ومدينة المرسى، عدم وجود متسولين، لم أذكر أنني صادفت أحدهم، الجميع مشغول بأعماله اليومية والبحث عن لقمة عيشه، بل بالعكس كانت عبارات الترحيب تنهال علينا من المواطنين التونسيين مثل "مرحبا بكم في تونس" أو "مرحبا بضيوفنا" وغيرها، وقد لاحظت الترحيب أكثر في مدينة المرسى الساحلية حيث جمال المكان والطبيعة والشاطئ وسحر المكان والزمان والإنسان.
لقد حظيت في رحلتي بلقاء الدكتور عبد المجيد الشرفي رئيس المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون "بيت الحكمة" والمتخصص في الفكر والحضارة الإسلامية، حيث أهديته نسخة من كتابي "في قلب إيران.. الطواف حول ربوع بلاد فارس" وقد أخجلني بطلب توقيع النسخة، حينها لم أستطع الاعتذار خاصة مع إصراره، لكنني قلت على استحياء: " أنا لست سوى تلميذة صغيرة لديك، والتلاميذ الصغار هم الذين يطلبون توقيع الكبار".
كما تشرفت بلقاء المفكر العراقي عبد الجبار الرفاعي، حيث كان بلده ضيف شرف معرض تونس الدولي للكتاب، وهو متخصص في الفكر الإسلامي وعلم الكلام الجديد، أعترف أني لم أقرأ له كثيرا، لكن لقائي به دفعني لقراءة كتبه ومقالاته التنويرية.
الملتقيات الثقافية من فوائد السفر الكبرى، حيث إنها تتيح لك فرصة التعرف على أشخاص رائعين، كانت جهودهم المشرقة سببا في نجاح "الأيام الثقافية"، تعرفت على كثيرين منهم أشخاص يحبون بلدنا العزيز سلطنة عُمان، وأخص بالذكر منهم الدكتورة زهية جويرو مديرة الدورة الحالية لمعرض تونس الدولي للكتاب، الأستاذ رضا الكشتبان المشرف على الأيام الثقافية الدولية في معرض تونس الدولي للكتاب، الرسامة حذامي سلطان، الإعلامية نبيلة جريري، الشاعر البحريني الدكتور راشد نجم، وكان من المفترض أن ألتقي أيضا بالباحثة التونسية ألفة يوسف التي ألفت عدة دراسات عن المرأة، لكن للأسف لم تتح لي الفرصة، نظرا لظروف عملها، كونها أستاذة جامعية بمدينة السوسة وكذلك لضيق وقت الزيارة، لكنها كانت حاضرة فكرا من خلال كتاباتها التنويرية التي تلامس العقل النقدي والوجدان الروحي، ولمسحتها الصوفية العرفانية التي تحاول أن توفق بين العقل والإيمان.. لا أنسى هذه الأوقات الجميلة التي قضيتها مع شخصيات رائعة هناك.
الحديث عن تونس يطول، لكن يجب أن لا ننسى نقطة تطور الفكر والفلسفة في هذا البلد الذي اهتم بتطوير التعليم وجعله ضمن أهم الأولويات الوطنية منذ أيام الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة الذي يكن له الشعب التونسي كل احترام وتقدير، أذكر أنني مررت على مكتبة صغيرة في السوق القديم، وبينما كنت أتصفح الكتب، وقعت عيني على عنوان "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" للكاتب الطاهر الحداد، أمسكت الكتاب وطالعت صفحاته قليلا، لأوجه بعدها سؤالا للبائعة الشابة: هل تعرفين الطاهر بن الحداد؟ وكان في المكتبة أيضا بعض الفتيات، حيث أجابوا جميعا في نفس التوقيت: "ومن لا يعرف الطاهر الحداد في تونس؟ ذلك المجدد التونسي الذي دعا إلى تعليم المرأة وتحريرها من الجهل والتخلف". لم أشتري نسخة من الكتاب حيث أنني أمتلك 3 نسخ بـ3 طبعات مختلفة، فأنا أعتقد أن خطاب الطاهر الحداد لم ينتهي بعد ولا نزال بحاجة ماسة إليه الآن، فنحن في العالم العربي لا زلنا بين التقدم خطوة إلى الأمام والتأخر خطوتين إلى الخلف منذ أن تصدى ثلة من المفكرين الإصلاحيين العرب لحمل راية التحديث في الفكر العربي أمثال رفاعة الطهطاوي وقاسم أمين والطاهر الحداد وطه حسين وغيرهم.
تعيش تونس اليوم مرحلة مهمة في تاريخها الحديث، في مواجهة تحديات كبيرة خاصة الاقتصادية منها، لكن ما رأيته خلال الأيام القليلة التي أمضيتها هناك يدعو إلى التفاؤل بأن السنوات القليلة القادمة أفضل وسيتجاوز هذه البلد الجميل تلك الأوقات الصعبة ويعود أفضل مما كانت.
***
فايزة محمد - عُمان