حوارات عامة

محمد سهيل احمد يحاور الروائي صلاح عيال

لمناسبة صدور روايته الأخيرة (كأس الأضاحي)

الكاتب صلاح عيال: كُل شخصيّة في الروايّة هي بطل ضمن موقعها الحياتي!

***

 س1: لديك تجربة روائيّة سابقة تحمل عنوان (كيورش). ما أبرز الفروقات الفنيّة والاسلوبيّة بينها وبين تجربتك في كأس الأضاحي؟

  ــ في البدء سعيد بلقائك أستاذ محمد، وأشكرك على اجراء الحوار معي في هذه المناسبة. الحقيقة بدأت كتابتي مع القصة قبل الروايّة، فكتبت مرايا السلحفاة (مجموعة قصصيّة) صدرت عن الاتحاد العام للأدباء والكُتّاب العراقيين - المركز العام في 2006، ولا أقول إنني تأنّيت أو نحيّتُ جانباً قصصاً كثيرة كتبتها، ولكن التأني في ذلك واختيار ما يلائم النشر كان يعود عليّ بالفائدة والمران.. وإلى جوار ذلك تصاعد لدي هاجس كتابة الروايّة بنحو مستمر، فعكفت بأثر ذلك على كتابة العمل الروائي (كيورش) الذي بدأت في كتابة أحداثه منذ العام 1986، لكنني تركته مُنضّداً حتى العام 2007، من ثم أعدتُ مسألة التفكير في نشره، معتمداً في ذلك على التوثيق في سرد الأحداث، وعلى أسلوب كتابة المانشيت الصحفي، وممازجة أشياء ووقائع وحالات مُعينة عايشتها مع شخصيات فعليّة موجودة في الواقع العياني الحي.. وبصراحة كان للمتخيل النصيب القليل فيه؛ لذلك لم تحظ (كيورش) بعنايّة القراء والمتابعين من النقاد. علماً أنني أحد أوائل الذين كتبوا ونشرواً الروايّة من جيلي في البصرة.. لقد كُتبت هذه الروايّة بطريقة التداعي الحر المُستند إلى التذكر، أي: استعادة وجوه منتقاة من حياة عراقية مُتخيّلة في بعض الأحوال.. إن أغلب المشاهد التي تضمنتها الروايّة وقعت أحداثها فعلاً في شمال العراق، كتبتها بينما كنت جندياً شهدت ُبعض الأحداث كما أنصت إلى روايات الجنود وأصدقاء مدنيين، من الأكراد قصوا إلينا تلك الأحداث.   ولقد أعقب كيورش كتابة نوفيلا الانثى التي تحولت ذكراً.. حكايّة الشافيّة، فتاة الأهوار في جنوب البصرة. كانت أحداثها تُروى بطريقة السرد التتابعي والتصاعدي.. خلافاً لما في كأس الأضاحي التي عبرت عن ابتكار طرق متعرجة وطرائق مُركّبة في السرد.. فيها التخييل واللعب على تقنيات البناء، وتضمين العنوانات الفرعيّة، لذلك لم يُعتمد في بناء معمارها على وقائع عينيّة، ولكن جرى تعمد الإبقاء على شخصياتها مُتماثلة وهذا هو المهم.

س2: على الرغم من الهدوء الطاغي الغالب على اسلوبك، يمكن لـ (كأس الاضاحي) أن تصنف ضمن روايات وجهة النظر       Viewpoint هل تؤيد هذا التصنيف؟

   ــ  لا أظن أن للكاتب وجهات نظر قبليّة تتعمد تثبيت نسق العبارة والجملة والمقطع، ومن ثم تسبق قصديات الحدث الروائي قبل التشكل، فوجهات النظر تتشكل تطورياً داخل الرواية عبر السرد والمراجعة المُتكرِّرة، لأن الأفكار المتضمنة، والتي تصبح وجهات نظر معينة لاحقاً، هي ما تُحدِّد آراء الشخصيات وترسم حدود أفعالها، وهي ليست الهدف أيضاً، كما  ليست الاشتغال الجوهري الذي يعد وجهة نظر كُليّة، فما يدخره الروائي من قراءات ومواقف يجعلها تقف منه بمسافة لأنها تحمل آراء الشخصيات، أو قد يتبناها في تضمين سرد الأفكار والوصف وبعض الحوارات، وربما يحذر من قول كُل شيء.. أعتقد أن الجميع يهبط في السرد على ساحة الممكن والمتضمن في العمل المكتوب.4057 رواية كاس الاضاحي

س3: تعد (كأس الأضاحي) من روايات (الدستوبيا - الخراب) يتضح ذلك من خلال أجوائها وفصول الانحطاط التي طبعت حياتها الحارقة على أجساد وأرواح شخوصها الرئيسة لاسيما الأنثويّة منها. هل للطوباويّة ذات النظرة المثاليّة حيز ما في تصميم تناولك السردي؟

  ــ اشتغلت كأس الأضاحي على النقيض من المدينة المتخيلة، اليوتوبيا أو الطوباويّة كما جاء في سؤالك، نعم أخذت الديستوبيا في كتابات الكثير، بكل ما تحمله الكلمة من خراب وفوضى وسوداويّة، واذا اشرقت الروايّة قليلاً فبألوان رماديّة متباينة ولم تنتم للبياض أو القيم الطبيعيّة، ويبدو أنها تصف حياة العراقيين المحكومة بالعسكر والسياسة الشموليّة في حينها، عندما كانت الحياة نتاجاً مُراً لحربين وحصار، واحتلال أجنبي وحروب طائفيّة، ومليشيات وتنظيمات سلفيّة متطرفة، وفضلاُ عن تحوّل الجدران إلى لافتات للموتى، وسرادق مُشادة في رأس كُل شارع، وتوابيت متعاقبة؛ تآكلت آخر الدعامات الإنسانيّة، وانتزعت بقايا القيم الاجتماعيّة المحلية، فتضخّمت الإثنيات الملتبسة، والمشكوك في أصولها.. إثنيات لم تدخل بوصفها متغيراً بشرطها التاريخي الطبيعي، إنما عصفت بعالمنا بطرائق سوريالية عنيفة أحالت الأشياء إلى مسوخ.. فما عسانا أن نكتب عن غير الديستوبيا..، وعن غير المرأة هذا الجنح المكسور على مدى التأريخ، فما وقع عليها من حيف وتجريح لا يحصى له عدد، وإن كُتب عنها العشرات من السرود، فسيظل ذلك دون مستوى إدراك حقيقة وعِظم المأساة التي تعيشها النساء.

س4: تعدد الشخصيات، تشابك الأحداث، الحوارات، المصائر تعدّ بمثابة تحديات لابد أنها رافقتك أثناء انجاز العمل، فأيها كان الأشق على القلم؟

  ــ  منذ الصفحات الأولى لمصير الفتاة ورود بدأ التحدي والتمرد واللعب على تركيب الحكايات والشخصيات، حتى أنني طردت منها الكثير، وأبقيت منها ما ابقيت عندما كان بعضها يفرض نفسه على تطوير فعل السرد، وأقول أجبرتني بعض الشخصيات على الانتقال في مستوى المتون الحكائية من مستوى إلى آخر، وتوزيع البنيان السردي وتلمس ميزاته، ولا أنكر أنني تخليت عن كثير من الوصلات الحكائيّة المهمة، وأبقيت على الأخرى، ولا أعرف إن كنت قد أنصفتها أم لا، وهذا ما أحاول أن أتابعه من وجهات النظر النقديّة والقراءات والآراء التي تُعاين هذا العمل، مع إيماني بأن النص يُكتب بطرائق سردية شتى، فدائماً ما أحمل قارئي على الصواب، لأن القارئ كاتب آخر بالضرورة.

س 5: أحد قراء الروايّة ــ كتب عنها قراءة نقديّة ــ اعتبر ساميا (بطلها) الأول. هل تتفق معه أم ترفض مبدأ البطولة الذي اعتاد أن تتسم بها الروايات التقليديّة ذات المنحى الواقعي؟

ــ كُل شخصيّة في الروايّة هي بطل ضمن موقعها الحياتي، تقدم نفسها إلى القارئ، ولا يُنظر إليها بشيء من المُمايزة، حتى أن أحد القراء حدثني عن عشيقة رعد، وهي مجرد شخصيّة وردت في سطر. وأتذكر قولاً لستانسلافسكي في المسرح بأن لا يوجد دور كبير ودور صغير، هناك ممثل كبير وممثل صغير. ومن شأن المتابع أن يرى (سامي) شخصيّة مركبة ربما لكونه كتوماً وفرّاناً ومُسلِّك مجاري، من ثم مُتهماً وضابط تحقيق وسجيناً سياسياً ومطارداً.. كُل هذه التحولات جاءت بخط يده كراو لهذه الكؤوس وأضحياتها، فما عسى القارئ أن يقول سوى أن (سامي) هو بطل الروايّة.

س6: جاءت عناوين الفصول طويلة في صياغاتها وذات طابع تفسيري. هل تقصدت أن يعين هذا الأسلوب قارئ روايّة بحجم روايتك في اجتلاء خارطة الطريق المرسومة عبر تشابك الأحداث؟

  ــ بدايّة كانت الروايّة بلا عناوين طويلة، بل كانت مرقمة فقط، فنوهت في مقدمة الرواية وتحدثت فيها عما تضمنه صندوق البريد من أحداث وشخصيات، لكن اشتباك هذه الأحداث والشخصيات والمصائر المتقاطعة وأزمنتها وأماكنها جعلتني أضع لها عناوين تفسيريّة كي لا تضيع على القارئ، ومع ذلك استغربت من البعض أن فاته الإمساك بشخصيّة مهنا، الاخ غير الشقيق لـ جوري أم نرجس، وهو خال نرجس، لكنه أخوها في دفتر النفوس، المعروف عند العراقيين، "بنفوس الاهمال" والمرسّم بتأريخ الأول من شهر تموز.

س7: هل تجد نفسك في القصة أم في الروايّة ولماذا؟ 

   ــ أعشق كتابة الروايّة لكني أجد نفسي في القصة أقرب وحتى الجملة القصصيّة والحكايات داخل الروايّة قد تلاحظ انفصالها وانتمائها، رغم صعوبتها ومميزاتها، فأنا، في القصة أميل إلى اليوميات والسرد البسيط والحكايات غير المعقدة. وكما ترى ابعدتني الروايّة وأجبرتني على الكثير من الرمزيات والإشارات من قبيل يوم مقتل الفتاة، والعنوان ومفردة الكأس، والأضاحي، والأضحيّة بمعناها القربان، والأفعى، والأصبع المقطوعة والفتاة ذات الثدي، وغيرها من المدلولات..

س8: هل بالإمكان اعتبار الروايّة ذات طابع توثيقي؟ فبعد ملاحظتنا لورود تواريخ حقيقيّة باليوم والسنة لأحداث ومناسبات ذات صلة بحياة الشخوص.

  ــ  انحسار التأريخ ضمنا بالعودة إلى الاحداث وتأشيراتها لا يعني ما روي كوثيقة أو وقائع حاصلة فعلا، بل معظمها متخيل، والافتراضي كما أرى هو جزء من الواقع الحقيقي، لهذا سُئلت كثيراً إن كان القتل وقع فعلاً أم افترضته؟ وكلا الأمرين صحيح، لأنه محتمل الوقوع في هذا التأريخ المتضمن والمثبت في الواقع الحقيقي، ذلك انا شاهد للوقائع، وغيري وكُل من هرسته هذه الازمنة السوداويّة يقر باحتمالية وقوع القتل إذا ما كان شاهد عيان.

س9: يرى البعض أن (كأس الاضاحي) ذات طابع بوليسي. هل تتفق مع هذه الرؤيّة؟

ــ ربما اعتمد بعض القراء على الجريمة والتحقيق والاتهام، هذا فيه جزء صحيح لكني تخطيت الروايّة البوليسيّة لتوسع قنوات الجريمة وأهدافها المعلنة والمتواريّة خلف الشخصيات والأزمان والأمكنة، ولا تنسى أن الزمن الممتد بالروايّة تعدى نصف قرن، فهل يبقيها ذلك قصة بوليسيّة وتحقيقا؟

س10: بدءاً من القسم الثالث لاحظنا انتقال أحداث الروايّة إلى الحد الذي أشعرنا بأننا نقرأ روايّة أخرى. هل هو تحصيل حاصل أم تقنيّة اسلوبيّة ذات مرام وأهداف؟ 

   ــ كان (سامي) هو المحورُ في سرد الأحداث ومتابعاتها، والشخصية المركبة، فلا يصح أن يُترك بلا قصة وهو المحقق الذكي والخبير فيما وقع له.. كما أن حكايته وحكايّة زهور عشيقة أخيه فلتت مني وفرضت نفسها على الروايّة لأجل أن تكتمل الخطوط المتقاطعة زمنياً بصورها المتطابقة والمتشابهة أو المتباينة لاسيما حملت الزمن قبل 2003، والمكان هو بغداد، بينما بقيّة أحداث الروايّة كانت تجري في البصرة، والأهوار ومركز المدينة والغجر.. وفنياً حاولت الاشتغال على متون الحكايات واشتباكها في بناء الفصول ومبانيها، لا أقول تجريباً ولكنني وجدت بأن هذا الشكل هو الأنسب في السرد.

س 11: لا شك أن العنف الذي ساد أجواء الروايّة يعد بمثابة إدانة للواقع المعيش. ماذا عن صبوات وأحلام ورود وزهور ونرجس؟

- اعتقد أن إجابتي ستعود إلى النقطة الثالثة وما أُجهضت من أحلام للإنسان العراقي بل وللمرأة كما شخصتها الروايّة، بأحلام الطفولة، المتمثلة بلعبة الطاق للصبايا وهروب جوري في ليلة عرسها واختطاف زهور في لحظة احتضان حبيبها، أحلام النساء في الروايّة والواقع الأقرب، انتهت بعمليات قيصريّة فاشلة.

س 12: لو طلب منك اختصار الروايّة باتجاه النوفيلا (الروايّة القصيرة). كيف يؤثر إجراءٌ كهذا على بنيّة العمل ككل؟

   ــ هنا نتحدث عن عمل آخر وليس عن رواية كأس الأضاحي.!

***

اجرى الحوار: محمد سهيل احمد

......................

اشارة

* صلاح عيال، كأس الأضاحي، دار ألكا، بروكسل، ط1 2024

- من مواليد 1962، البصرة، بكالوريوس فنون جميلة ــ المسرح ـ

-  يعمل في احدى الدوائر الحكومية في البصرة .

- من اعماله الأدبية: (مرايا السلحفاة) مجموعة قصصية،

(كيوورش) رواية 

 

في المثقف اليوم