حوارات عامة
حوار مع الشاعر والناقد والكاتب ا. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي
س1. حدثنا عن رواد الشعر العربي (الذين ينظمون القصيدة العمودية) الفصيحة بالمملكة العربية السعودية؟
ج1. بداية لا بُدَّ من إيضاحٍ يتعلَّق بمصطلح (العَموديَّة). فلقد درجَ عامَّة المثقَّفين المعاصرين على اختزال مفهوم العَموديَّة الشِّعريَّة في(الوزن والقافية)، حين ينعتون قصيدةً بـ"العَموديَّة". بل كثيرًا ما نجد هذا لدَى متعاطي النقد. وهو خطأٌ اصطلاحي؛ فالمصطلح يشمل في النقد العَرَبيِّ احتذاء تقاليد القصيدة الجاهليَّة عمومًا، ممَّا حدَّده (أبو علي المرزوقي، -421هـ= 1030م)، في كتابه "شرح ديوان الحماسة"، في سبعة أبواب: شَرف المعنى وصحَّته، وجزالة اللفظ واستقامته، والإصابة في الوصف، والمقاربة في التشبيه، والتحام النَّظم على وزنٍ ملائم، والتناسب في الاستعارة، ومشاكلة اللفظ للمعنى واقتضاؤهما للقافية. ولم يكن من معايير القصيدة العَموديَّة الالتزام بالوزن والقافية؛ من حيث كان ذلك مسلَّمًا، لا محلَّ خلافٍ أصلًا بين المقلِّدين والمجدِّدين. أمَّا السؤال عن رُوَّاد الشِّعر (الموزون المقفَّى) في المملكة العَرَبيَّة السُّعوديَّة، فيقتضي كذلك القول إن الشِّعر العَرَبيَّ قد بقي في الجزيرة العَرَبيَّة منذ أن كان، وإنْ انحرفت لُغته في القرون المتأخِّرة إلى العاميَّة. ولمَّا كانت النهضة الحديثة، كان من رُوَّاد الشِّعر الفصيح، المشار إليهم إبَّان بداية العهد السُّعودي، أعلام كُثر. ولقد راوح شِعر الرعيل الأوَّل، في النِّصف الأوَّل من القرن العشرين، بين محيٍ لديباجة الشِّعر التقليديَّة، المتعلِّقة بمفهوم عَمود الشِّعر، وآخَر حاول إدخالَ بعضِ قضايا العصر المستجدة. كان من أعلام الطائفة الأُولى: (عبَّاس الغزاوي)، و(محمَّد بن عثيمين). ومن الطائفة الأخرى، شعراء أمثال: (حمزة شحاتة)، و(حسين سرحان)، و(طاهر زمخشري)، و(حسين عَرَب)، و(خالد الفرج)، و(عبدالله بن خميس)، و(محمَّد بن علي السنوسي). ويدخل في هذا التيَّار من حيث بناءُ القصيدة أولئك الشعراء المتأثِّرون بالشِّعر الحديث في مصر والشام والمهجر، تأثُّرًا إيجابيًّا، ولا سيما بمدرستَي (أبولو) و(الديوان) في مصر، مثل (محمَّد حسن فقي)، و(عبدالله الفيصل)، و(مقبل العيسى)، وأضرابِهم. مع بعض ظواهر تجديديةٍ طفيفةٍ في الإيقاع، كانت تأتي عفويَّةً من خلال النظام الخليلي التناظري: كأنْ تجد في قصيدة لطاهر زمخشري، في ديوانه "ألحان مغترب"، عنوانها "صورة" استعماله: علَّةَ (التسبيغ)، وهو زيادة حرفٍ ساكنٍ على ما آخره سببٌ خفيف، في وزن الطويل، قائلًا:
فلمَّا تدانتْ من وسادي ترنَّحتْ فطوَّقتُها خوفًا عليها بساعدَينْ = مفاعلان
ثمَّ جاءت بعدئذٍ موجة التجديد، وشِعر التفعيلة، لدى: (محمَّد حسن عواد)، و(حسن عبدالله القرشي)، ومن تلاهم حتى وقتنا الراهن.
س2. ما أهم الأغراض التي تطرق لها الشعراء؟ وكيف تلقاها الجمهور السعودي والعربي؟
ج2. في المرحلة التأسيسيَّة لم تَعْدُ تلك الأغراض التقليديَّة في الشِّعر القديم، من مديح، ورثاء وغزل. على أنَّ الشِّعر الحديث لم يَعُد يدور في فلك الأغراض، بل تتخذ القصيدة بناءً شبكيًّا، تتواشج فيه الموضوعات. وليس الشِّعر في المملكة ببِدْع من الشِّعر الحديث في ذلك.
س3. هل نظام القصيدة العمودية العربية يواكب نمط الشعر العالمي المعاصر؟
ج3. إذا اتفقنا على مفهوم القصيدة العَموديَّة، كما أوضحناه في إجابة السؤال الأوَّل، فليس ثمَّة شِعر عَمودي في العصر الحديث غالبًا. وإنما المقصود: الشِّعر الموزون المُقَفَّى. وهذا الضرب قد تقرأ منه ما هو أكثر حداثة من شِعر التفعيلة، فضلًا عن قصيدة النثر. بل قد تقف على ذلك في بعض الشِّعر في العصر العبَّاسي. وإذا سُلِّم بقول القائلين إنَّ الشِّعر ليس بكلامٍ موزونٍ مقفًّى فقط، كما كان يُعرِّفه بعض القدماء، وأنَّ الوزن والقافية لا يعدوان مكونَين فنيِّين في القصيدة؛ فما الذي يمنع من أن تواكب القصيدة العَرَبيَّة، بشخصيَّتها النوعيَّة المائزة، الشِّعر العالمي المعاصر؟! وإنَّما الاستلاب هو الذي يخيِّل إلى أهله أنَّ نمط الشِّعر العالمي المعاصر لا يكون إلَّا وَفق النمط الغربي فقط! ليس هذا في الشِّعر وحده، بل في كل شأن. كأنَّنا نقول: هل الزِّيُّ العَرَبيُّ يواكب نمط الزِّيِّ العالمي المعاصر؟ ما يعني أنَّ على العَرَبي، لكي يكون عالميًّا ومعاصِرًا، أن يخلع ثيابه، ويلبس بذلة الغربي، وإلَّا فليس عالميًّا، وليس معاصرًا، وربما ليس إنسانًا! وهكذا فليس لدى الأُمم المتخلِّفة من حلولٍ، سِوَى التجرُّد من الشخصيَّة المستقلَّة والمحاكاة الاتباعيَّة للغالب. هل نظام القصيدة اليابانيَّة (الهايكو) يواكب نمط الشِّعر العالميِّ المعاصر؟ نعم، يواكب، بإنجاز الثقافة اليابانيَّة، التي لم تنشغل بمثل هذا السؤال، ولم تبدِّل ثقافتها، ولا شِعرها، وإنْ أضافت إليهما. بخلاف العَرَب، الذين يودُّ أحدهم، لو استطاع، أن يخرج من جِلده، ليقترب من صورة الغربي، بأي ثَمن! الهايكو، مثلًا، لم يواكب نمط الشِّعر العالميِّ المعاصر فحسب، بل غزا العالم، بما في ذلك العالم العَرَبي. مع أنه بناءٌ متقزِّمٌ جِدًّا، تتألَّف القصيدة فيه من بِضع كلماتٍ بسيطة، وبعضه أشبه بأرانين ترقيص الأطفال قديمًا، ولا مقارنة بين إبداعيَّته والقصيدة العَرَبيَّة، بناءً، وتاريخًا، وتنوُّعًا. تخيَّل معي لو كان من ضروب الشِّعر الياباني معمار قصيدةٍ على غرار القصيدة العَرَبيَّة، ماذا كانوا سيفعلون به في العصر الحديث؟! أكانوا سينادون برميه في مزبلة التاريخ، كما يفعل بعض العُربان؟! التحضُّر، كالتخلُّف: بنيةٌ واحدةٌ متكاملة، هنا وهناك!
س4. كيف يتبلور الحب في قصائدك وما الغاية من توظيفه؟
ج4. ليس بمقدور شاعرٍ صادقٍ أن يجيب عن هذا السؤال. فهذه وظيفة الناقد، الآخَر. وما من شاعرٍ يرَى نفسه حقَّ الرؤية، وإنْ كان ناقدًا. غير أنَّني سأجيب عن السؤال بما أجاب به الشِّعر:
ولَـولا الحُـبُّ ما كُـتِـبَتْ حُـرُوْفٌ
ولا سُـئِـلَ الرُّسُـوْمُ ولا الطُّـلُوْلُ
ولا هَـتَـفَــتْ بِـفَـوْدَيَّ اللَّـيالِـــيْ
كأنِّــيْ فَــوْقَ عاصِفَــةٍ نَـزِيْـــلُ
ولا قُـلْـتُ وقـد حَـنَّـتْ رِكـابِـيْ
وقـد أَزِفَ التَّـشَـمُّـرُ والرَّحِـيْــلُ:
على قَلَــقٍ فإِنَّ الـمَوْتَ سَـرْجِـيْ
وحَـادِيْـنَـا على المَسْـرَى مَـلُــوْلُ!
ثُمَّ يقول في المقابل:
أَنا لا قَلْـبَ لِــيْ لِلْحُـبِّ حتَّـى
أُعِـيْـدَ قُـلُـوْبَ أُمـَّـاتٍ ثَـكالَـى
وما لِـيْ فـي الهَوَى كَأْسٌ ونَفْسٌ
إِذا لَمْ أَمْحُ عَنْ جَسَدِيْ احـتِلالا!
دَعِيْـنِـيْ كَيْ أُحَرِّرَ قُدْسَ عَقْلِـي
ورُوْحِـيْ مِنْ جُـنُونٍ بِـيْ تَوالَـى
فمِنْ (قَيْسٍ) أُحَرِّرُ جِيْدَ (لَـيْـلَى)
ومِنْ (لَيْلَـى) أُحَـرِّرُهُ اخـتِـبـالا
(جَمِيْلٌ)، (عُرْوَةٌ)، (مَجْنُونُ لُبْنَى)،
قَبِيْلَةُ (عُذْرَةٍ) «صاعتْ» عِيالا!
دَعِـيْـنِـيْ أَقْـرَأُ الدُّنـيا ، حُقُولًا
تَضِجُّ ضُحًى عَصافيرًا/ سُؤالا:
مَـتَى الإِنـسـانُ يَـرْقَـى في رُؤاهُ
إلى (حَيِّ بْنِ يَـقْظانَ) اكـتمالا!
دَعِيْـنِـيْ أَهْتَدِيْ ، والدَّرْبُ لَيْلٌ
كـ«لَيْلِ الصَّبِّ»، (بِالحُصْرِيِّ)، طالا
دَعِيْها، تَعْشَقُ المَجْهُوْلَ، مِثْلِـيْ،
فَـتـاةٌ تَـشْتَـهِـيْ الإِثْمَ الـحَلالا
ويَومَئذٍ، تَـعالَـيْ لِـيْ بِـقَـلْبٍ،
خَلِـيِّ القَلْبِ، يَشْتَعِلُ اشتِـعالا
لِـتَـعْـرِفَ ما سَماءُ الحُبِّ أَرْضٌ
لِيَحْمِلَ قَرْنُ (سِيْزِيْفَ) الجَـمالا
بِـأَرْضٍ لا تَـمِيْـدُ بِـنا سُهُـوْلًا
ولا تَـهْـتَـزُّ مِنْ رِيْـحٍ جِـبـالا!
هُـنا، والآنَ، نُسقاها قَـصِيْـدًا،
بِعِـطْـرِ الحُـبِّ، وهَّـاجًـا زُلالا
**
فقالتْ: «إِنْ تُعَمَّرْ عُمْرَ (نُـوْحٍ)
وإنْ بَـلَّـتْ ثُـمالَـتُــنـا ذُبــالا!
فسَلِّمْ لِيْ عَلَى (الأَقْصَى)! وسَلِّمْ
عَلَى الحُبِّ المُؤَجَّلِ!».. قُلْتُ: «حالا!»
س5. عندما ترى دراساتك الأكاديمية والنقدية في مجلات علمية محكمة ما الإحساس الذي ينتابك؟
ج5. لا شكَّ أنَّ الدارس يسعَد بتتويج عمله أكاديميًّا؛ غير أنَّ السعادة الكُبرَى: أن يرى عينَي قارئٍ بسيطٍ، من جمهرة الناسِ، تلتهمان عمله بحُبٍّ.
س6. ما غاية الشعر اليوم وهل يخدم القضايا الإنسانية العالمية؟
ج6. الشِّعر هو نبض اللغات في الإنسان، اليوم، وأمس، وغدًا. وخدمته للقضايا الإنسانيَّة هي بإعادة الإنسان إلى إنسانيته.
فلولا الشِّعْـرُ ما كـانـتْ لُغـاتٌ
ولا اقْـتَرَحَ الخَـيَالُ مَدَى الطُّمُوحِ
ولولا الشِّعْرُ ما سارتْ سَحابُ الـ
ــمَشاعِـرِ، جَـيْشَ هَطَّـالٍ دَلُـوْحِ
يُـرَوِّيْ خَـابِـيَ الـتَّاريـخِ فِـيْـنـا
ويَـغْـشَانـا بِشُـؤْبُـوْبٍ سَـحُـوْحِ
يُـعِـيْدُ بِـنـاءَ أَوْجُـهِـنا، ويَـرْنُـو
لِوَجْـهِ الحـُـسْنِ فـي وَجْـهٍ قَـبِيْـحِ
هَلِ الشِّعْـرُ- وقد تَعِبَتْ نِصَالُ الـ
ـقصائدِ- غَـيْرُ إِنسـانٍ ورُوْحِ؟!
فَـرُبَّ قَـصـيـدةٍ قَـصَدَتْ لِـواءً،
ورُبَّ قَـصـيدةٍ فَـتْـحُ الـفُـتُـوْحِ!
س7. هل النقاد العرب يستطيعون تقييم الشعر العربي بنظام القصيدة العمودية في وسائل التواصل الاجتماعي؟
ج7. تلك وظيفة الناقد الحقيقي، أن يتابع كلَّ جديد. ولا أدري لماذا التركيز على "القصيدة العَمودية" في الأسئلة؟ ولماذا التساؤل حولها وكأنها باتت من عمل الماضي، وأثرًا بعد عَيْن. عِلمًا بأن القصيدة التناظريَّة، في ما أزعم، من أكثر ضروب البناء الشِّعري مناسبةً لوسائل التواصل الحديثة. فبيتٌ شِعريٌّ واحدٌ قد يختزل لك قصيدة. وهو ما يتعذَّر كثيرًا على قصيدة التفعيلة؛ لأن قصيدة التفعيلة جسدٌ مترهِّلٌ طويل، قائمٌ على وحدة النص، إذا اجتزأتَه أفسدتَه. لهذا سترى أنَّ أبيات الشِّعر العَرَبي هي أصلح من غيرها للنشر عبر وسائل التواصل الحديثة. غير أنَّ ثمَّة ضربًا من الأدب المعاصر وهو (الأدب الإلكتروني التفاعلي)، والسؤال حوله سؤالٌ آخَر. وتاريخ علاقتي بهذا الضرب قديم، فأبحاثي فيه انطلقت منذ عام 2008، حينما نشرتُ دراسةً محكَّمةً، عنوانها «نحو نقدٍ إلِكترونيٍّ تفاعليٍّ»، في «مجلَّة آداب المستنصريَّة»، (كليَّة الآداب، الجامعة المستنصريَّة، العراق). ويُعَدُّ من أوائل البحوث التأصيليَّة في الأدب الإلِكترونيِّ عَرَبيًّا. ثمَّ تضمَّن تلك الدراسة كتابي «شِعر التفعيلات وقضايا أخرى»، الصادر 2011، عن (دار الفراهيدي ببغداد). كما قدَّمتُ خلال العقدين الماضيين محاضرات وأوراق بحثٍ متعدِّدة حول هذا الموضوع في مناسبات مختلفة. وأقصد بـ(الأدب الإلِكتروني التفاعلي) ما يُعرَف بـ(النص المترابط Hypertext)، تحديدًا، لا ما دُوِّن من الأدب إلِكترونيًّا، عبر مواقع التواصل الاجتماعي. فهٰذا الأخير لا يعدو نصًّا أدبيًّا دُوِّن بالتقنية الحديثة، أو نُقِل إلى هذه التقنية، ولا فرق بينه والنصِّ التقليدي، مخطوطًا أو مطبوعًا، إلَّا في الوسيط بين الكاتب والمتلقِّي: من الورقة إلى الشاشة.
س8. العالم العربي اليوم أصبح الكل فيه يكتب الشعر والرواية والمسرح. كيف تقيم هذه الوضعية؟ وما الضوابط العلمية للإبداع والمبدعين؟
ج8. يبدو الكُتَّاب أحيانًا أكثر من القراء! "فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً، وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ، فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ." الزمن كفيلٌ بالغربلة، لا الضوابط العِلميَّة، وحدها. الضوابط موجودة، لكنها غير مطبَّقة، حتى من بعض النقَّاد. فمن النقَّاد من يُروِّج لأعمال هابطة، لا لجهلٍ أو لانحطاط ذوقٍ بالضرورة، ولكن لمصالح متبادلة. وليس هذا في عصرنا فقط، بل في عصور سالفة كان يحدث مثل ذلك، غير أن سهولة النشر في عصرنا قد جعلت الظاهرة تبدو أكثر فجاجة. ولهذا قد تجِد من الأعلام من لم يكن لهم ذِكرٌ لائقٌ في أزمانهم، وإنَّما اكتُشِفوا لاحقًا. وآخرون كانوا في أزمانهم ملء السمع والبصر، ثمَّ لم يبق منهم أثرٌ بعد انتهاء الحفلات التي لعبوا فيها أدوار المُعْرِسِين!
س9. أكيد بأن دول خليجية كانت رائدة في احتضان مسابقات عالمية للشعر العربي الفصيح. لماذا لا نرى نفس البادرة في المملكة العربية السعودية؟
ج9. ثمَّة مبادرات كثيرة في المملكة، وكثيرٌ منها محكَّم ورصين، بعيدًا عن الإعلام الدعائي، والمتاجرة بالمواهب، وتنجيم أنصاف المواهب، وإنْ عَبر التعصُّب القَبَلي أو الجماهيري، الذي يُقَدِّم ويؤخِّر، لا لجودة المنتَج، بل عصبيَّةً لهذا أو ذاك. ومنها، مثلًا، جوائز سوق عكاظ السنويَّة المتنوِّعة، والمحكَّمة عِلميًّا، ومسابقات الأندية الأدبيَّة. وهذه ممارساتٌ ثقافيةٌ قديمةٌ وعريقةٌ في هذه البلاد. غير أنَّ لتسليع الأدب، وتحويله إلى منافسات، كالمنافسات الرياضيَّة، حكاية أخرى. وليست في صالح الأدب دائمًا، وإنْ أعجبتْ جماهير المباريات، الذين لا يستقطبهم من الأمر سِوَى الفُرجة والتصفيق والتصويت.
س10. ما سبب عزوف العديد من الشعراء عن القصيدة العربية؟
ج10. العازفون عاجزون غالبًا، آخذون بما تيسَّر، وكل مُيَسَّرٌ لما خُلِق له. غير أنَّ هذا العزوف كان أكثر قبل عقود. بل السَّاحة الشِّعريَّة تشهد اليوم أوبةً ملحوظةً إلى القصيدة العَرَبيَّة، بنظامها الأصيل، حتى ممَّن كانوا عنها عازفين. ولستُ- على كلِّ حالٍ- مع الانغلاق على قالبٍ واحد؛ فالتنوُّع إثراءٌ حيوي، ولكلِّ نمطٍ جمهوره ومتذوِّقوه. إلَّا أنه من الخطأ الحضاري الفادح إقصاء المختلِف، من قديم أو حديث، والتلاعب بالمصطلحات، وإهمال الرصيد التراثي، للقصور عن استيعابه، وعِوَض تطويره، نقفز عليه لاستيراد جاهز، يبدو أسهلَ مركبًا، وأقلَّ مؤونةً على هواة الشَّعرنة والأضواء.
س11. هل الترجمة اليوم كفيلة بنقل أفكارنا وهمومنا ومصاعبنا للآخر الغربي؟
ج11. قبل الغربي، ينبغي أن نُعْنَى بنقل أفكارنا إلى العَرَبي، وأن نعالج همومه، سواء وصلنا إلى الغربيِّ أو إلى الشرقيِّ أم لم نصل. الأُمم المتحضِّرة هي تلك التي تسعى إلى امتصاص حضارات الآخَرين، وتمثُّلها عبر الترجمة. ولا يظهر الهوس المَرضي بترجمة النتاج إلى الآخَر إلَّا لعُقدة نقصٍ طفوليَّة، كي يكبر العبد في عينَي سيِّده. وإلَّا فالآخَر، الغربي، ليس في حاجتنا، ولا شأن له بمترجماتنا وأفكارنا وهمومنا، اللَّهم إلَّا إنْ وجد فيها سلاحًا يوجهه ضدَّنا، بصورةٍ أو بأخرى. أمَّا العمل القَيِّم، فيفرض نفسه غالبًا، ويستدعي الترجمة كثيرًا. غير أنَّ مترجم أعمالنا يُفترض أن يكون المستفيد، أي الآخَر، لا العكس. ثمَّةَ فرقٌ بَيِّنٌ، إذن، بين الترجمة التجاريَّة، أو الترويجيَّة الفارغة، والترجمة لأهداف عِلميَّة أو معرفيَّة أو فنِّـيَّة.
س12. كيف تقيم إبداع الشباب السعودي في كتابة القصيدة؟
ج12. منذ بداية القرن الحادي والعشرين والعالم العَرَبي عمومًا يشهد ملامح أنضج من ذي قبل في التجارب الشِّعريَّة، تشي بآفاق مستقبليَّة أكثر تخلُّصًا من عثرات المراحل الانتقاليَّة التي مرَّت بها القصيدة الحديثة، في القرن الماضي، كما توقَّفتُ عند هذا في كتابي "حداثة النصِّ الشِّعري"، المنشور 2005، وهو حصيلة دراسات أنجزتُها سابقًا عن تاريخ نشره. فلقد كان الصراع، خلال النصف الثاني من القرن العشرين، يدور بين تيارٍ تقليديٍّ، ظلَّ مسيطرًا، وبين تجارب جديدة، كانت تتلمَّس طُرق التجديد، دون تأسيسٍ رصينٍ يؤهِّلها جِدِّيًّا لذاك. وبينهما فريقٌ ثالثٌ لم يكن يعنيه من الأمر- فيما يبدو- أكثر من أضواء الثورة والشهرة الآنيَّة. وقد قاربتُ مرارًا تحوُّلات في المشهد الإبداعيِّ، مرَّت بها التجربة الشِّعريَّة الحداثيَّة في السُّعوديَّة، وبعض التجارب خارجها، مثل الأردن، ومصر، والعراق، والمغرب، والسودان، وسوريا. على أنه من الحقِّ الاعتراف بأنَّ تلك التحوُّلات ظلَّت، بالقياس الزمنيِّ، وئيدةً؛ لا بسبب المستوى التأهيليِّ، لغويًّا وإبداعيًّا لدى الشعراء، فحسب، ولكن أيضًا لظروف اجتماعيَّة وثقافيَّة، ما برحت ترفض الجديد والتجديد وتُحبِط التجريب. وهذا ما كان يدفع أحيانًا إلى التمرُّد، والتطرُّف، ردَّة فعلٍ على تطرُّفٍ سابق، كما هو الحال في شؤوننا العَربيَّة عمومًا. وبالرغم من هذا، فإن الاستقراء كان يشير، خلال العِقدَين الأوَّلين من القرن الحادي والعشرين، إلى أنَّ القصيدة الحديثة قد أفضت إلى عهدٍ جديد، يُنبئ عن انصهار التيارات السابقة في تيارٍ جديد، سبق أن أطلقتُ عليه (الحداثة الأصيلة، أو الأصالة الحداثيَّة)، أو سمِّه، إنْ شئت: (ما بعد حداثة)، تقوده شبيبةٌ، جمعتْ إلى المواهب تعليمًا أغنَى، وفِكرًا أرحب، قمينَين بأن يبعثا وعيًا بالتراث، وإدراكًا أعلى بمسؤوليَّات التحديث. هذه شهادة، قديمة وراهنة، أُراهن على ما جاء فيها. وهي تؤكِّد ما قلتُ في إجابة سابقة: إنَّ المخاض، مهما طال، كفيلٌ بأن يُسفِر عن مولودٍ ما، والبقاء لن يكون إلَّا للأصلح، بمعايير الفنِّ والحياة معًا.
***
حاوره: الأستاذ فيصل رشدي