اخترنا لكم
السيد ولد أباه: الشرق وأوهام الاستثناء الغربي

في كتابها الصادر مؤخراً بالإنجليزية، بعنوان «كيف صنع العالم الغرب؟»، تدحض المؤرخة البريطانية جوزفين كوين الأطروحة السائدة في اليمين القومي الأوروبي حول الهوية الحضارية الغربية الاستثنائية المبنية على الموروث اليوناني الروماني والتقليد المسيحي.
وبالنسبة لكوين، ليس الغرب حقيقة أزلية ولا مجالاً جغرافياً مغلقاً، بل هو اختراع تاريخي وثقافي متأخر وغير دقيق، إنه نتاج سرديات وتصنيفات تشكلت في حقب ماضية، غالباً في سياق الصدام مع الآخر، أي الشرق المنعوت بالهمجية والغرابة. وبالنسبة لكوين، لا يمكن فصل غرب المتوسط عن العالم الشرقي (مصر وفارس وبلاد الرافدين) الذي تفاعل معه بكثافة طيلة قرون طويلة ممتدة. منذ المؤرخ الشهير هيرودوت شاعت ثنائية «الغرب الحر» و«الشرق الاستبدادي» وتكرّست في أعمال هيغل والأدبيات الاستشراقية الحديثة. بيد أن الحقيقة التاريخية هي أن اليونان لم تكن تنتمي تاريخياً لأوروبا، بل كانت جزءاً من الفضاء الشرقي الأوسع.
في نظريتها النقدية للاستثناء الغربي، ترجع كوين لأعمال عالم الأنتروبولوجيا جاك غودي الذي بيَّن في كتابه «سرقة التاريخ» (صدر سنة 2006) أن المؤسسات السياسية والقانونية والتشكّلات الفكرية الكبرى التي يعتقد أنها من إبداع الغرب، هي في حقيقتها غير خاصة به، بل ظهرت في الغالب خارج محيطه الجغرافي والاجتماعي.
وفي هذا الباب، يتعين التذكير بأن الحرف اليوناني تمت استعارته من الفينيقيين، وعلم الفلك اليوناني له جذوره البابلية، كما أن الرياضيات اليونانية لها أصولها المصرية، بل إن الديانة الإغريقية لا تختلف في شيء عن الاعتقادات الشرقية. وحتى في المجال الفلسفي، يرى غودي أن اليونان لم يكونوا متفردين بالنزعة العقلانية، بل إن الحضارات الصينية والهندية والشرق أوسطية بلورت تقاليد فلسفية وعلمية ومؤسسية رصينة لها تأثيرها العالمي الواسع. ومع أن الثورة الصناعية والاقتصاد الرأسمالي، اكتملا في أوروبا، إلا أن غودي يرى أن جذورهما تعود إلى الصين والعالم العربي الإسلامي.
والخلاصة التي تصل إليها كوين وغودي هي أن الحدود الفاصلة بين الغرب والشرق مجرد وهم أيديولوجي، تفنّده الحقائق التاريخية الموضوعية، بل إن التداخل ظل كثيفاً بينهما، سابقاً ولاحقاً، بحيث لا يمكن الحديث عن هوية غربية خالصة ومستقلة.
أهمية هذه الأطروحة التفكيكية هي الوقوف ضد النزعة الثقافوية التي تهيمن في أيامنا على تيارات اليمين الشعبوي الصاعد في عموم الديمقراطيات الغربية، وهو اتجاه يرى أن خط الصراع السياسي قد انتقل في السنوات الأخيرة من أرضية الاستقطاب الاجتماعي الطبقي إلى خط التصادم الحضاري. ومن هنا ضرورة الدفاع عن القيم المرجعية للغرب في مقابل «الخطر الشرقي» المُتجسّد في «الهجرات الوافدة».
ما يتعين التنبيه إليه هنا هو أن بعض الكتاب العرب والمسلمين يسقطون في فخ نظرية الاستقطاب الحضاري، مركِّزين على حقوق الخصوصية الثقافية والانتماء الأصيل، مستغلين الأعمال النقدية للاستشراق والمركزية الغربية من أجل تثبيت الوعي الانفصالي عن العالم.
لقد بدأ هذا التوجه من كتاب إدوارد سعيد الشهير «الاستشراق» الصادر في نهاية سبعينيات القرن الماضي، رغم أن هدف المؤلف لم يتجاوز وقتها معالجة المركب المعرفي السلطوي في كتابات الأدباء الأوروبيين المتعلقة بالشرق. وفي كتاب زميله الفلسطيني الآخر وائل حلاق، «قصور الاستشراق»، وصل هذا الاستغلال مداه بالمطالبة الصريحة بالقطيعة (المستحيلة والساذجة) مع الحداثة الأوروبية.
قبل سنوات، أصدر الفيلسوف الإيراني الراحل داريوش شايغان كتاباً مثيراً بعنوان «النور يأتي من الغرب»، بيّن فيه أن الدخول في مسار التحديث الكوني، الذي هو الأفق الوحيد المتاح للبشرية، يعني بشكل أو بآخر قبولَ التغريب خياراً معرفياً ومجتمعياً لا مناص منه. إلا أن شايغان أكد في الوقت نفسه، أن التحديث وإن كان يفضي ضرورةً إلى اعتماد النموذج الغربي في مرتكزاته الكبرى، إلا أنه لا يؤدي إلى ما يكثر الحديث عنه من استلاب حضاري وضياع للهوية، إذ لا تزال الثقافات غير الغربية قادرة على تقديم رصيد روحي وأخلاقي يستفيد الغربُ نفسُه منه.
ورغم دقة ملاحظة شايغان، إلا أنه لا بد من التنبيه إلى أن ما نعتبره نموذجاً غربياً هو في حقيقته حصيلة تفاعل إنساني واسع، كان للشرق العربي الإسلامي دور محوري فيه. قد تكون فكرة الكونية نفسها (أي الإنسانية المتعقلة المتساوية من حيث الأصول والتوجهات القيمية) فكرة شرقية، حفرها بقوة فيلسوف الإسلام الوسيط الفارابي الذي كان أول مفكر حرص على ترجمة مضامين الملة في المقولات البرهانية العمومية.
***
د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني
عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 5 أكتوبر 2025 23:30