اخترنا لكم
علي العميم: إمبريالية الإسلاميين!

حصرَ محمد أحمد خلف الله في بحثه «الصحوة الإسلامية في مصر» المؤثراتِ الثقافيةَ التي حدَّدت فكرَ سيد قطب بنوعين من المؤثرات:
«نوع هو الفكر الإسلامي الناشئ في الهند وباكستان، الذي يمثله عند سيد قطب المفكران الإسلاميان: أبو الأعلى المودودي وأبو الحسن الندوي. أما النوع الآخر من المؤثرات فهو الفكر الذي جاءت به الحضارة الغربية، الذي يمثله عند سيد قطب المفكر الغربي ألكسيس كاريل». ثم مضى بعد ذلك يقارن بين تلقّي سيد قطب أفكارِ الندوي وتلقيه أفكارَ كاريل!
لا يصحُّ أن نقول: الفكر الإسلامي الناشئ في الهند وباكستان، الصحيح أن نقول: الفكر الإسلامي الناشئ في الهند أو في شبه القارة الهندية أو عند مسلمي الهند.
هذا الفكر هو فكر الأصولية الإسلامية عند مسلمي الهند الذي صاغ أسسه الكلية والتفصيلية صياغة شاملة - بلا منازع - أبو الأعلى المودودي ابتداءً من أواخر عشرينات القرن الماضي. وبعد أن هاجر أبو الأعلى المودودي من حيدر آباد إلى البنجاب (1937)، وبعد أن أسس «الجماعة الإسلامية» واختير أميراً لها (1941) لم تكن هناك دولة مستقلة اسمها باكستان، فباكستان التي مناطقها في الشمال الغربي والشمال الشرقي من الهند في التاريخين السالفين كانت من أقاليم الهند. ولم تنشأ بوصفها دولة مستقلة عن الهند إلا في عام 1947.
لنأخذ بعين الاعتبار أن ذلك «الفكر الإسلامي الناشئ» عند خلف الله، تتوزعه في نشأته دولتان هما الهند وباكستان، ولننظر في قوله هذا: «وكان أبو الحسن الندوي يتحدث عن حاكمية الله، وأنها غير مستثمرة في العالم الذي كان يعيش فيه، وهو بلاد الهند التي نعلم أن أكثريتها من غير المسلمين، وأن الحكومات فيها لغير المسلمين».
الباكستان - قبل تقسيم الهند إلى الهند والباكستان - كان أکثرية سكان مناطقه من المسلمين، واستناداً إلى هذا الأمر، اقترح محمد إقبال خلال انعقاد المؤتمر السنوي لـ«حزب رابطة المسلمين» عام 1930 تحت رئاسته في خطابه بهذا المؤتمر إنشاء وطن خاص بمسلمي الهند. وتمكن «حزب رابطة المسلمين» تحت قيادة محمد علي جناح، بعد جهود حثيثة بدأت من عام 1940، من تأسيس دولة مسلمة في القارة الهندية عام 1947، تحكمها حكومة من المسلمين، هذه الدولة هي الباكستان.
ما قاله خلف الله هو تحليل تكرر قوله في الثمانينات الميلادية عند بعض المثقفين الذين يصنفون ضمن دائرة الإسلام المستنير، لكنه كان يقال إزاء المودودي وليس إزاء الندوي، ويقال حين الحديث عن خطأ سيد قطب في نقله فكرة «الحاكمية» وفكرة «الجاهلية» من المودودي وتطبيقها ما بين أواخر الخمسينات وأول الستينات الميلادية على المجتمع المصري، ذي الأكثرية المسلمة، الذي حكومته من المصريين المسلمين من ضباط الثورة.
وربما يكون الرائد في القول بهذا التحليل هو أحمد كمال أبو المجد، وذلك في مقال منشور في مجلة «العربي» بتاريخ أبريل (نيسان) 1981، كان عنوانه «4 وجوه لمأساة الشباب المسلم».
يقول في هذا المقال: «والعلامة المودودي - رحمه الله - كتب ما كتب في إطار مجتمع يسعى للتميز، وشعب مسلم يتوجه للانفصال السياسي، وتوكيد الذات في مواجهة الآخرين. أما الأستاذ سيد قطب - رحمه الله - فقد كتب جانباً كبيراً مما كتبه بعد معاناة هائلة من الاضطهاد والقهر، ومن خلال العزلة التي أحاطه بها جو الاعتقال والسجن».
الحق أننا لسنا أمام تحليل أو تفسير أو استكناه، بقدر ما نحن أمام تبرير وتسويغ واعتذار لتطرف المودودي وسيد قطب الديني.
بالنسبة للمودودي، تطرفه الديني تربى عليه من طفولته، ونظّر له في كتب قبل أن يطرح محمد إقبال فكرة إنشاء وطن قومي خاص بالمسلمين في شبه القارة الهندية، كان معارضاً بقوة لأن يكون لمسلمي الهند وطن خاص بهم. لأن هذا الوطن كان يراه نقيضاً للأخوة والأممية الإسلامية، فمسلمو الهند - كما كان يرى - ليسوا بحاجة إلى وطن خاص بهم، فديار الإسلام، حيث ما كانت، هي وطنهم.
يقول الرئيس الباكستاني الجنرال محمد خان عنه: «لقد لجأ إلى باكستان، ثم ما برح أن قام بحملة لنشر الدعوة الإسلامية بين الشعب الباكستاني السيئ الطالع. فلقد هال هذا السيد الوقور ما شاهده في باكستان: بلد غير إسلامي وحكومة غير إسلامية وشعب غیر إسلامي! كيف يسوغ للمسلم أن يدين بالولاء لهذه الدولة؟ وهكذا شرع يدخل في روع الناس أنهم ضالون مارقون عاجزون، لا أمل فيهم».
إن المودودي في تنظيره الإسلامي الأصولي من البداية كان يسعى إلى قيام إمبريالية دينية إسلامية أصولية تحكم العالم. وكذلك كان الندوي. واقتفاهما في هذا المسعى سيد قطب، وتبعتهم فيه طوائف من الإسلاميين.
وما قاله أبو المجد في الاعتذار لسيد قطب قاله كثيرون بعده من الإسلاميين ومن العلمانيين. ومن العلمانيين قاله صاحبنا خلف الله في بحثه «الصحوة الإسلامية في مصر».
وسأدحض ما قاله أبو المجد في اعتذاره لسيد قطب من المقالة نفسها التي ساق فيها اعتذاره السالف له.
يقول أبو المجد: «ولعل من الكلمات التي ساعدت على التوسع في إطلاق وصف الجاهلية على المجتمعات المعاصرة ما ذهب إليه سيد قطب - رحمه الله - من أن الجاهلية ليست فترةً زمنيةً معينةً من الزمان، إنما هي حالة اجتماعية معينة، ذات تصورات معينة للحياة. ويمكن أن توجد هذه الحالة، وأن يوجد هذا التصور في أي زمان ومكان».
أبو المجد اقتبس ما قاله سيد قطب من تفسيره للآية 33 من سورة «الأحزاب» في كتابه «في ظلال القرآن».
في المقال السابق رأينا كيف تلقى سيد قطب بإعجاب وانبهار وانقياد المعنى اللازمني واللاتاريخي لمصطلح «الجاهلية» في مقدمته للطبعة الثانية من كتاب أبي الحسن الندوي «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين»، الذي تعرف إليه - لأول مرة - من خلال هذا الكتاب.
سید قطب في عام 1951، لم يكن يعاني «معاناة هائلة من الاضطهاد والقهر»، ولم يكن يكابد «العزلة التي أحاطه بها جو الاعتقال والسجن».
التفسير الذي تردد في الثمانينات الميلادية تارةً باقتضاب، وتارة بتوسع، يفسر فيه سمة خاصة اتسم بها الإسلام الهندي ابتداءً من القرن التاسع عشر، ولا يفسر به لا تطرف المودودي ولا تطرف الندوي الديني. وللحديث بقية.
***
علي العميم
عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: الأحد - 17 شَعبان 1446 هـ - 16 فبراير 2025 م