اخترنا لكم

محمد عثمان الخشت: الأخلاق بين الفلسفة التقليدية والعبادة الزائفة

"عجزت الفلسفات التقليدية عن تقديم منظومات أخلاقية قابلة للتنفيذ؛ فهي لم تقدم توضيحا للوسائل الواقعية والآليات العملية التي يمكن أن توصل لتحقيق الخير، والتي يمكن أن تساعد الإنسان على صناعة مجتمع متقدم.

لقد نجحت الفلسفات التقليدية في بناء أنظمة أخلاقية نظرية متماسكة، لكنها غالبًا ما افتقرت إلى أدوات عملية أو آليات واضحة لتطبيق تلك الأخلاق في الواقع العملي، خاصة في ظل التغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

ولعل من أسباب عجزها أنها استغرقت في المفاهيم الأخلاقية المثالية، وغالبًا ما تكون بعيدة عن الواقع العملي. مثلًا، الفلسفات الكلاسيكية لأفلاطون وأرسطو قدّمت رؤية مثالية للأخلاق تقوم على الفضائل الفردية، لكن كيفية تطبيق هذه الفضائل في الحياة اليومية يظل غامضًا وغير ملموس.

ويعتمد كثير من الفلسفات التقليديةعلى النوايا المثالية وحدها كأساس للسلوك الأخلاقي، ولم تقدم أدوات واضحة للتعامل مع التحديات العملية المتجددة في الحياة اليومية. مثلًا، هي تدعو إلى الصدق والإحسان بشكل مثالي وعام، لكنها لا توضح كيفية تحقيق هذه القيم في سياقات معقدة مثل الاقتصاد أو السياسة.

وركزت الفلسفات التقليدية على الأخلاق الخاصة والفردية لكنها لم تبين كيف يمكن بناء أنظمة مجتمعية عامة ومؤسسية تدعم تطبيق تلك الأخلاق في المجتمعات. وهذا يؤدي إلى صعوبة تحقيق العدالة والفضيلة على نطاق واسع من دون دعم مؤسساتي وتنظيمي.

كما أن الفلسفات التقليدية جاءت في سياقات تاريخية وثقافية قديمة، ولم تكن مجهزة لمواجهة التحديات المتجددة سواء على مستوى عصرها أو على مستوى العصور التالية. ولذا كان من الطبيعي أن تبدو عاجزة أمام تحديات العصور الحديثة مثل: تحديات الذكاء الاصطناعي، وحقوق الإنسان، واقتصاد العولمة، والتكنولوجيا الجديدة، والحراك الاجتماعي، وتغير نمط العلاقات الدولية. وترتب على هذا أننا لم نجد في الفلسفات التقليدية إجابات واضحة عن كيفية التعامل مع القضايا الأخلاقية الجديدة التي فرضتها تلك التحديات. لا سيما وأنه توجد فجوة بين المبادئ الأخلاقية التي تدعو إليها الفلسفات التقليدية وبين تطبيقها الفعلي في الحياة اليومية. ويؤدي هذا إلى التناقض بين ما هو مثالي وما هو واقعي، مما يحد من فعالية هذه الفلسفات في توجيه السلوك الإنساني في الواقع.

ولم توضح فلسفات الأخلاق التقليدية حتى الآن الشروط الأولية لأخلاق التقدم، أي الشروط التي لابد من توافرها والتي بدونها لا يمكن ممارسة أخلاقيات التقدم، فمثلما لا يمكن الزراعة الجيدة بدون مناخ وأرض خصبة، فكذلك لا يمكن ممارسة أخلاقيات التقدم بدون الشروط القبلية. فبدون الشروط القبلية لا يمكن أن تكون هناك إمكانية لأن تكون فاضلا، وبدون هذه الشروط لن تكون هناك إمكانية لممارسة أخلاق التقدم.

وفضلا عن هذا فإن فلسفات الأخلاق التقليدية لم تقدم الضمانات الدنيوية التي تكفل تطابق السعادة مع الفضيلة في حياة الناس اليومية، أي أنها لم تقدم أنظمة تجعل الفضلاء سعداء في حياتهم، وتجعل الأشرار تعساء في المقابل. فكثيرا ما ترى الفضلاء - للأسف - تعساء، وترى الأشرار سعداء! فهذه الفلسفات تركت مهمة إحداث التطابق إلى قوى غيبية تحققها في العالم الآخر وليس في العالم المعاش، وبعض تلك الفلسفات لم تعبأ بهذه المسألة أساسا أو لم تتنبه إليها من الأساس.

وإذا كانت الفلسفات القديمة استغرقت في بيان كيفية التمييز بين الخير والشر؛ فهذه مشكلة شكلية أكثر من اللازم من وجهة نظرنا، لأن الخير واضح بذاته والشر واضح بذاته، ويمكن معرفتهما بالعقل المنطقي.

ومن جهة أخرى، انحرف كثير من الفقهاء ورجال اللاهوت عن طبيعة الدين الأخلاقية النقية وغيبوا مقصده الكلى؛ حيث حولوا الدين إلى سلطة ومؤسسة وكهانة، وحولوا الشرائع الأخلاقية للعمران إلى شرائع للنصف الأسفل من الجسد.

وانعكست الأولويات في التعامل مع الدين، مما أدى هذا إلى ما يسميه الفيلسوف الألماني «كانتKant» بالعبادة الزائفة التي تسعى لنوال اللطف الإلهي بطرق لا علاقة لها بالفضيلة الأخلاقية، لأنها تقوم على الالتزام الشكلي الصوري، وعلى مجرد الأداء الجسدي للطقوس والشعائر اعتمادا على أعمال الجوارح وليس أعمال القلوب، التي لا تتجاوز دائرة الحركة الجسمية إلى دائرة ارتقاء الروح، بينما يجب أن تجمع العبادات بين أعمال الجوارح وأعمال القلوب على حد تعبير الإمام الحارث المحاسبي في كتاب له يحمل هذا العنوان «المسائل في أعمال القلوب والجوارح».

ولا شك فى أن الأخلاق تعارض الدين المزيف، لكنها لا تعارض الدين النقي؛ لأن الخلاص في الدين المزيف يتم من خلال الطقوس والشعائر الجسدية وحدها، وليس من خلال الالتزام الخلقي والروحي، حيث يكون سبيل الخلاص في الالتزام الصوري المظهري بالعبادات وحدها دون المعاملات ودون ممارسة الأخلاق والفضيلة.

وفي الخطاب الديني الجديد، تكمن أهمية الدين النقي في أنه يقدم لنا «الأمل» في أن جهودنا النازعة إلى إقامة ملكوت الإنصاف والسعادة لن تضيع عبثاً. وتكمن أهمية العقلانية الروحية بالنسبة إلى الدين في أنها تساهم في تنقية الدين من التفسيرات المشبوهة التي يقدمها له أهل الكهنوت، كما تساهم العقلانية الروحية في إعادة تأكيد الوظيفة الأخلاقية للدين، وأن العبادة الحق تكمن في السلوك الأخلاقي؛ فالدين الحق فى جوهره عمل بالقانون الأخلاقي، والسلوك الأخلاقي النابع من الضمير وأداء الواجب هو العبادة الحقيقة"

***

د. محمد عثمان الخشت

عن صحيفة الاهرام المصرية، يوم: 29/9/2024م

 

في المثقف اليوم