كتب واصدارات
علي الوردي ناقداً عصره.. عرض لكتاب الدكتور رائد جبار كاظم

صدر عن دار ومؤسسة الأنتشار العربي، الشارقة ـ الامارات العربية المتحدة، كتاب (علي الوردي ناقداً عصره) ضمن أصدارات عام 2025، لمؤلفه الدكتور رائد جبار كاظم، أستاذ الفلسفة والفكر العربي والاسلامي المعاصر في الجامعة المستنصرية، ويمكن الحصول على الكتاب من خلال معارض الكتب والمكتبات العربية وموقع نيل وفرات الألكتروني.
مقدمة الكتاب:
شغل المفكر العراقي علي الوردي (1913ـ 1995م) الوسط الثقافي والفكري والأكاديمي والاجتماعي، بطروحاته ومؤلفاته وكتاباته النقدية الجريئة، التي ظهرت في فترة تاريخية مليئة بالأحداث السياسية والثقافية والاجتماعية الخطيرة والمثيرة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، في النصف الثاني من القرن العشرين، وكانت قبل هذه الفترة بقليل مدة دراسته في أمريكا، حيث عاين الغرب عن كثب، وتأثر بالمنهج العلمي الرصين، وبالمنطق العلمي الجديد، وفي نفس الوقت أتخذ موضوعات تاريخية واجتماعية ودينية تراثية لدراسته في الماجستير والدكتوراه، وتخصصه في علم الاجتماع وتحديداً في علم الاجتماع الديني، متخذاً من التاريخ العربي الاسلامي ميداناً له في دراساته الاجتماعية، ودراسة الظواهر والاحداث التاريخية والسياسية من وجهة نظر إجتماعية، حتى عُد من مؤسسي علم الاجتماع العربي، وأحد رواده وعلمائه الكبار في القرن العشرين، كما أختص بدراسة المجتمع العراقي دراسة عميقة، يرجع لها الكثير من الدارسين والباحثين في كتاباتهم، فالوردي بحق يعد أحد أعمدة علم الاجتماع العربي المعاصر، فضلاً عن ذلك فهو يتميز بإسلوب خاص ومميز في الكتابة قريبة من ثقافة عامة الناس، فهؤلاء يمثلون قاعدته الشعبية والثقافية، ولا يخجل من نقد الكتّاب والمثقفين والمختصين له على إسلوبه هذا، بل يعده أسلوب العصر والواقع، فالبساطة في نقل الفكرة أهم بكثير من التفلسف والتحذلق والوعظ والأدب غير الرشيق الذي ملأ الآفاق وملّ الناس منه، فقد ولّى زمن العنتريات وحكايات ألف ليلة وليلة وأدب السلطان وليالي السهر والحسان، ونحتاج الى ثقافة وأدب وفكر قريب من الناس يطرح مشكلاتهم، ويعالج همومهم، ويشبع بطونهم، ويصلح عقولهم، ويرفع شأنهم، في التربية والتعليم والصحة والمعاش.
لقد تعرض الوردي في مشروعه الفكري الى دراسة ونقد المجتمع العربي عامة والمجتمع العراقي على وجه التحديد وأبرز الظواهر الفاعلة في المجتمع والتي تلقي بظلالها على حياة الناس، وتسليط الضوء على كافة المؤثرات التي تساهم في صياغة شخصية الفرد والمجتمع، من معتقدات دينية وثقافية وفكرية الى إحداث ووقائع تاريخية وإجتماعية الى عوامل سياسية وإقتصادية، وغيرها من المؤثرات التي تطرأ على كل مجتمع بشري بإختلاف تنوعاته وجغرافيته البيئية والسياسية والقومية والدينية.
وفي هذا الكتاب الذي بين أيدينا نقدم فصول ودراسات في فكر الوردي كان فيها الوردي ناقداً لكثير من الظواهر والأفكار والمعتقدات والمشكلات، دينية وسياسية وثقافية وإجتماعية وفلسفية، فكانت أفكاره نقدية، ثورية، تغييرية، إصلاحية، تنويرية، ولأجل ذلك حمل الكتاب عنوان علي الوردي ناقداً عصره. ليكون معبراً عن فكره وروح عصره وأسلوبه ومنهجه الفكري والعلمي.
جاء الفصل الأول ليناقش موضوع في النقد الديني يحمل عنوان (تجديد الفهم الديني والقراءة الاجتماعية للقرآن عند علي الوردي)، مسلطاً الضوء على أهم تخصص أهتم به الوردي في فكره ألا وهو علم الإجتماع الديني، ودراسة الظواهر والمعتقدات والأفكار الدينية وأثرها في حياة الفرد والمجتمع، وأهمية وأثر الدين الإسلامي في تكوين وبناء حياة الإنسان العربي المسلم، وما تركه الإسلام من أثر على الشعوب والأمم الأخرى كثقافة وحضارة لها أهميتها العالمية، وخاصة في مسألة إصلاح المجتمع والثورة على الظلم والسعي لتنظيم وتغيير حياة الفرد والمجتمع نحو الأفضل، وما كان هذا ليكون لولا الكتاب المقدس للمسلمين، القرآن الكريم من جهة، وشخصية النبي الأكرم محمد (ص) القيادية من جهة أخرى. وقد عرضنا في هذا الفصل رؤية الوردي في الإصلاح الديني وتجديد الفهم الديني المعاصر للمشكلات والواقع الذي يعيشه الإنسان اليوم، معتمداً الوردي في ذلك على المنهج العلمي الحديث ومنتفداً الطرق والمناهج التقليدية في البحث والتدريس ومعالجة الأمور.
وفي الفصل الثاني تناولنا موضوعاً في النقد السياسي حمل عنوان (العمامة والأفندي بين فالح عبد الجبار وعلي الوردي، دراسة مقارنة في الاسلام السياسي الشيعي)، فقد قدمنا قراءة في كتاب فالح عبد الجبار (العمامة والأفندي) وبيان مضمونه وأفكاره، مقارنة بأفكار علي الوردي في موضوع (العمامة والأفندي) كنمط تفكير وثقافة مغايرة بين الأثنين، وتشابه الموضوع بين عبد الجبار والوردي لا يعني تشابههما في المضمون والأفكار، فما لم يقله عبد الجبار في كتابه عن الفرق بين طريقة التفكرين بين العمامة والأفندي، فقد قاله الوردي في فكره وكتاباته وفصلّ فيه القول تفصيلاً كبيراً، فضلاً عن التأثير الكبير لعلي الوردي في فكر فالح عبد الجبار عموماً وفي صياغة أفكاره في هذا الكتاب على وجه التحديد، وهو قراءة في الإسلام السياسي الشيعي، وما أحوجنا لتقديم قراءة نقدية معاصرة لهذا الموضوع من خلال رؤية مفكرين إجتماعيين كبيرين في الوسط الثقافي العربي وهما علي الوردي وفالح عبد الجبار، وبيان أثر ذلك الخطاب على الوسط الاجتماعي والثقافي والسياسي العراقي داخلياً وخارجياً.
وفي الفصل الثالث تناولنا موضوعاً ضمن دائرة النقد الثقافي، والذي حمل عنوان ( صورة المثقف عند علي الوردي ومقارنتها مع علي شريعتي وعلي حرب)، هذا الموضوع لشد ما شغل المفكرين والمثقفين العرب والمسلمين من خلال تقديم رؤية نقدية للمثقف وبيان مدى حضوره في الأوساط الثقافية والفكرية والاجتماعية ومدى تواصله مع الآخرين من فئات المجتمع، وبيان هوية وكارزما المثقف بوصفه يمثل نموذج الأنتلجنسيا الفاعلة في المجتمع، وله دور كبير في عملية البناء والتوجيه والنقد والتأسيس لثقافة حرة مسؤولة وفاعلة توقظ الآخرين من سباتهم الدوغمائي (المتزمت والمتطرف)، نحو آفاق إنسانية تألف التعايش والتسامح والإعتراف المتبادل بين الأنا والآخر، بخطاب ثقافي فكري يفتح الأبواب على الآخرين ولا يفكر بمنطق إحادي متطرف كخطاب رواد التفكير التكفيري ودعاة منطق الفرق الناجية، المثقف الحقيقي عند الوردي باحث ومفكر وليس داعية، يساعد الناس على معالجة مشكلاتهم وتحسين مستواهم الفكري والمعرفي والإجتماعي والإقتصادي بما يمتلك من أفكار ومنطق وإسلوب يخرج الناس من الظلمات الى النور. وهنالك تقارب كبير في وجهات النظر في بيان صورة المثقف ومهمته وهويته، بين الوردي وشريعتي وحرب، بيناها في هذا الفصل، مع بيان الفارق بينهم أيضاً.
وفي الفصل الرابع فقد تناولنا موضوعاً في النقد الفلسفي حمل عنوان (الموقف النقدي لعلي الوردي من الفلسفة الماركسية)، إذ شغلت هذه الفلسفة حقبة تاريخية مهمة وأنتجت جيلاً من المفكرين والفلاسفة والمثقفين اليساريين ممن يسعون نحو الثورة والنقد والتغيير، غربياً وعربياً، في السياسة والاجتماع والأقتصاد والتاريخ والثقافة والدين، فقد قدمت الماركسية طروحات فكرية جديدة في الموضوعات والمنهج وطريقة التفكير، مما أثارت شهية البعض بالتأييد والأنقياد لها بصورة أيديولوجية، ورفض وعارض البعض الآخر تلك الفلسفة ونقم عليها جملة وتفصيلاً، لما فيها من بعد مادي يقصي أي بعد غيبي من حياة الانسان. بينما كان هنالك فريق ثالث قدّم قراءة نقدية أبستمولوجية منها، تنتقدها تارة وتوافقها تارة أخرى، أعتمدت التحليل والنقد الفلسفي في تلك القراءة، وهو ما قام به الوردي في قراءته للفلسفة الماركسية.
أما الفصل الخامس فقد تناولنا فيه موضوعاً في النقد الإجتماعي حمل عنوان (لمحة إجتماعية عن تاريخ الأوبئة في العراق الحديث من منظور علي الوردي والعبرة منها في زمن كورونا)، حيث عرضنا لموقف الوردي لبعض الظواهر الصحية والإجتماعية والتاريخية التي حدثت في المجتمع العراقي في التاريخ الحديث، وكان الأثر كبير جداً فيها بين الفرد والمجتمع، وما تتركه العادات والتقاليد المعتقدات والدين والثقافة من أثر على سلوك الناس وتحركاتهم داخل المجتمع، وكان العراق قد تعرض لأوبئة وأمراض فتاكة ألمت به في مراحل تاريخية مختلفة، كالكوليرا والطاعون والملاريا والبلهارزيا وغيرها، وعرض الوردي لكيفية تعامل الناس مع هذه الأمراض طبياً وإجتماعياً، وبيان دور الوعي الصحي والثقافي لدى الفرد والمجتمع في معالجة الأمور من عدمه، وقد أستفدنا من عرض هذا الموضوع في فكر الوردي مع مقارنته بالواقع العراقي المعاصر وما حصل في ظل وباء فايروس كورونا (كوفيد 19)، الذي طال العالم أجمع، والذي سلك فيه الناس مسالك ومشارب في التعامل معه ومعالجته، وما كان للعادات والتقاليد والثقافة والوعي من دور في هذا العلاج والتعامل العلمي معه من عدمه، بإختلاف المجتمعات والدول والشعوب في هذا العالم، ومنهم المجتمع العراقي.
وفي كل فصل من فصول الكتاب قدمنا رؤية نقدية ونتائج خلصنا منها في هذه الدراسات، في فكر الوردي، ومقارنتها مع المفكرين والمثقفين الآخرين، وبيان مدى الحراك الثقافي والتفاعل الفكري بين هؤلاء المفكرين، ودعوتهم المشتركة لأعتماد المنهج والمنطق العلمي في معالجة الموضوعات، منطق التنوع والإختلاف والإحتمال، وليس منطق التفرد والإكراه والتطرف، والتثاقف المشترك والتعايش الدائم بين الأديان والثقافات والأمم لإستمرار عجلة الحياة وبناء الإنسان وبقاء البشرية.
عسى أن تساهم موضوعات الكتاب في تقديم رؤية جديدة وجادة في مشروع وفكر علي الوردي في الوسط الثقافي العراقي والعربي وتفيه حقه لما بذله من جهد كبير في إنارة وتحديث الثقافة والفكر والمجتمع العراقي والعربي، والعمل على ولادة نهضة علمية فكرية فاعلة تساهم في بناء مجتمع ودولة معاصرة تهتم بالإنسان وشؤونه الحياتية والإجتماعية والفكرية والتعليمية وفي كافة الجوانب الأخرى، هذا من جانب، ومن جانب أخرى أتمنى أن يساهم الكتاب في خلق وعي ثقافي لدى القرّاء بمختلف توجهاتهم لتقبل بعضنا البعض بمختلف تنوعاتنا، وأن نألف القراءات المختلفة بود وإحترام متبادل، معتمدين النقد والحوار المشترك ومنطق العلم في معالجة الأمور، دون منطق الوصايات والفرق الناجية وحاكمية البعض على البعض الآخر. فضلاً عن حاجة المجتمع العراقي اليوم لثقافة جديدة في التعايش المشترك بين الثقافات والقوميات والأديان تساعدنا على الخروج من الأنفاق المظلمة التي عشناها طوال فترات تاريخية سابقة جثمت على صدورنا، نتيجة الثقافات والهويات المستبدة المسيطرة على هويات الآخرين بالكامل، والتي أنتجت هويات قاتلة طاغية وأخرى مقتولة مسحوقة تحت أقدام الظالمين.