مقاربات فنية وحضارية
عدنان حسين أحمد: زيد الفكيكي.. سرديات بصرية تراهن على قوة الفكرة ورهافة التنفيذ
لا يحتاج النحّات زيد الفكيكي إلى التنويه أو الإشارة إلى موهبته الفنية واضحة المعالم فما إن ترى أول منحوته من أعماله المشاركة في المعرض الجماعي " ترانيم النهرين" مع الفنانين الثلاثة علاء السريح، وعلاء جمعة، ومحمد الدعمي حتى تتيقن كمُشاهد أنك تقف في حضرة نحّات مُرهف الحسّ، عميق الثقافة، ومُوغل في حُب المعرفة وخاصة الفنية منها فهو متحدّر من عائلة ثقافة وفنية وربما تكون والدته الفنانة بتول الفكيكي هي واحدة من هذه المصادر الفنية التي ينهل منها الكثير بشكل مباشر أو غير مباشر. يضم الجناح المخصص للنحات زيد الفكيكي 11 عملًا فنيًا لكنّ بعض هذه الأعمال يتضمن منحوتتين مثل "قِشبة" و "عشتار" و "نهرين" بحسب ثيمة كل عمل نحتي وما يتطلبه من شخصيات تجسّد الفكرة التي تشغل بال الفنان الذي يجمع بين الحدث وسرديته البصرية التي يراهن عليها كثيرًا.
يمتحّ زيد الفكيكي بعض موضوعاته الفنية من التاريخ العراقي القديم ويكفي أن نشير إلى منحوتته المُعبِّرة "إنكيدو" لنعرف حجم تعلّقه بالماضي العراقي التليد. لقد قدّم لنا النحات شخصية إنكيدو التي استلهمها من ملحمة "كلكامش" الشهيرة كشخص بدائي وسوف يتحوّل تدريجيًا من عبد رقيق إلى صديق حميم للطاغية كلكامش الذي يستعبد شعب "الوركاء" وربما تكون مغامرتهم الشهيرة في قتل "خمبابا" حارس الغابة، و "ثور السماء" هي الأكثر صخبًا وعنفًا الأمر الذي يفضي إلى مُعاقبة إنكيدو بالموت بينما تستأثر الآلهة بالخلود، وكان هذا الموت الصادم لإنكيدو هو مصدر إلهام لكلكامش للبحث عن عشبة الخلود حيث يركب البحر، ويواجه الأهوال، ويعثر على هذه العشبة السحرية لكنّ الحيّة تسرقها في غفلة منه فتذهب جهوده الجهيدة أدراج الرياح. ليس بالضرورة أن يعود زيد الفكيكي إلى تفاصيل شخصية "إنكيدو" التي يعرفها المتلقّي المتابع للملحمة فلاغرابة أن يقدّمه لنا كشخصية متأملة لكنها حزينة ومفكِّرة في الوقت ذاته. ولو عُدنا إلى المُعطيات الأولى لخلق هذا العمل لوجدنا أنّ هذه المنحوتة كانت بالأساس موديلًا لشخص ما جلس لمدة ساعتين وغادر المَشغل لكن المبدع زيد الفكيكي أعاد النظر في هذه المنحوتة وأضفى عليها الكثير من الصفات التي تجسّد دوره كشخصية مُفكرة ومُنكسرة ربما تبحث عن هواجس جديدة لم تخطر في بالها قبل بضعة آلاف من السنين قبل الميلاد.
لا تخرج منحوتة "عشتار" وهي تتألف من عملين اثنين، يختلفان في اللون ويتفقان في الهيأة، عن إطار الصفات التي يعرفها المتلقّي فهي إلهة الحُب والحرب والجمال والرغبة الجنسية والخصوبة وما إلى ذلك وقد استعار الفنان هيأتها الخارجية ليُذكِّرنا بشموخها وقدرتها على مواجهة الصعاب ودورها الكبير في تطويع الكائن البرّي إنكيدو وتهدئه رغباته الجنسية التي نقلته من التوحش والبربرية إلى مرحلة التحضّر والآدمية إن صحّ التعبير.
تُذكِّرنا منحوتة "الخاتون" بنساء أميديو مودلياني واستطالات بعض معالِم جسدها كالعُنق والخدّين واليدين والقدمين وما إلى ذلك لكنها لا تُحيل إليها مباشرة، فزيد الفكيكي له رؤيته الخاصة وانطباعاته الشخصية عن المرأة العراقية التي تمتلك معاييرها الجمالية المتفردة التي تنتمي إلى بلاد ما بين النهرين. والخاتون هي كلمة تركية تُطلق على زوجة الخليفة أو السلطان أو على سيدات المجتمع الراقي لاحقًا. وكان هذا اللقب يُطلق على السيدة "زبيدة" زوجة الخليفة هارون الرشيد ويقابلها لقب "هانم" عند المصريين و "خانم" عبد الشاميين. تنتصب منحوتة "الخاتون" التي تتألف من ثلاث قطع وهي الجذع والقسم السفلي الذي يتألف من الساقين اللذين تضع أحدهما على الآخر بهذه الطريقة التي لا تخلو من المكابرة والإثارة والخيلاء. تكرر المرأة في غالبية أعمال هذا المعرض فتارة نراها شامخة مُنتصبة، وتارة أخرى نلمحها غافية مُسترخية في قيلولتها التي تجسّد جمال المرأة النائمة التي لا تكفّ عن الإثارة والاستفزاز الحسّي حتى في إغفاءتها القصيرة التي لا تمرّ مرور الكرام.
يقودنا بعض منحوتات زيد الفكيكي إلى ما وراء الأغطية والحُجب وربما تكون منحوتة "أم العباية" هي الأكثر تأثيرًا على عين المتلقي المدربة التي تستطيع أن تغوص في الأعماق وتقدّم صورة عن الجمال الخفيّ الذي تحتضنه العباءة السوداء الناعمة التي تكشف عن ثراء الجسد الأنثوي بجغرافيته المتعرجة التي لا تركِّز على المتعة الحسيّة فقط وإنما تتجاوزها إلى المعطيات الجمالية الكامنة في لدانة الجسد الأنثوي ومطواعيته ورقته الموغلة في الطراوة والبضاضة والنعومة التي تستفز الحواس البشرية برمتها وتضع المتلقي في حيرة من أمره وهو يتنقّل بين المشاعر الحسية واللاحسية في الوقت ذاته.
يأخذ الجمال شكل المرأة النحيلة الممشوقة في منحوتة "جفاف" التي تتركنا نقارن ما بين جفاف البيئة وارتداد الجمال الأنثوي الذي يتأثر بما يصيب البيئة الجميلة التي نعيش بين ظهرانيها من ضرر. فهذه المنحوتة تنطوي على الحقيقة والمجاز ولكنّ تنفيذها بهذه الطريقة الذكية هو الذي يدفع المُشاهد لأن يتوقف طويلًا عند ثيمتها اللافتة للانتباه.
لا يريد زيد الفكيكي أن يفرّط بالثيمات النسوية حتى وإن كانت بسيطة وعابرة كما هو الحال في منحوتة "قِشبة" التي تعني "النميمة" أو نشر الإشاعات والأكاذيب بهدف الإفساد والوقيعة بين الناس وهي تكثر عند النساء المتبطلات اللواتي يقتلن أوقات فراغهنّ باغتياب الآخرين واختلاق قصص وهمية ما أنزل الله بها من سلطان. وربما تكون حركة المرأتين هي إحالة قوية لفعل النميمة التي تنخر في أعماق الإنسان وهي للمناسبة لا تقتصر على النساء فقط وإنما تتجاوزها إلى الرجال الجوف الذين يملؤون فراغهم بالنميمة والاغتياب.
تنتمي منحوتة "احتضان" إلى عالم المرأة أيضًا فهي التي تحتضن الرجل وتضمه إلى صدرها على الرغم من غيابه الافتراضي لأن الفنان يلعب على ثنائية الحقيقة والمجاز، والحضور والغياب ويؤطرهما باهتمامه الكبير بالثيمات الأزلية مثل الحُب والرغبة والاشتياق، ولا بأس أن تأتي ضمن ثنائية الروح والجسد فكلاهما يعزّز الآخر ويدفعه إلى المحبة والوجد والتسامي. وعبر هذه اللحظة المتخيّلة يأخذنا النحّات إلى عالم التجليات الذي تتماهى فيه الحدود والفواصل التي تتحقق فيها اللحظة الإنسانية التي يصبو إليها الكائن البشري الذي يجد نفسه في محبة الآخر فاليد الواحدة لا تصفِّق والزهرة الواحدة لا تصنع ربيعًا.
يختزل زيد الفكيكي ثنائية الرجل والمرأة في منحوتة "موطئ قدم" التي نفّذها بطريقة تعبيرية ورمزية، فالمرأة، من وجة نظره، هي التي تقود الرجل وتهيمن عليه، وقد جسّد هذه الفكرة ببساطة شديدة حينما وضعت المرأة قدمها، أو وجدت لها موطئ قدم، على قدم الرجل نفسه، وسحبته إلى دوائرها السحرية المضيئة. أليست "عشتار" هي التي روّضت "إنكيدو" وطوّعته على وفق مزاجها الخاص وجعلت منه كائنًا دمثًا، متحضرًا، رائق المزاج؟ وبهذه الحركة الذكية التي تتمثل بوضع القدم على القدم تؤكد الأثنى العراقية أو المرأة بشكل عام هيمنة الأنثى، وحضورها القوي، وأخذ زمام المبادرة من الرجل حتى وإن كان يتسيّد المَشهد بشكل ملفّق لا ريب فيه.
يعود زيد الفكيكي إلى الطبيعة التي يمجِّدها في أعماله الفنية فيبدع رائعنه الفريدة "نهرين" بتعرجاتهما الجميلة عبر خارطة العراق وقد نفّذ هذا العمل بمادة أقرب إلى رمال الشاطئ العراقي في النهرين الخالدَين ليطوي لنا صفحة مشاركته بهذا المعرض الجميل الذي يستلهم موضوعاته ومادته الأساسية من بلاد ما بين النهرين التي تضجّ بالأدباء والفنانين والمفكرين والعلماء الذين يحلمون بالخلود الإبداعي في الأقل ولعل النحّات زيد الفكيكي هو واحد من بين الأسماء الإبداعية العراقية الكثيرة المتميزة التي كرّست نفسها في هذا المضمار.
***
عدنان حسين أحمد (لندن)