مقاربات فنية وحضارية
محيي المسعودي: الفنانة التشكيلية الأردنية مها المحيسن.. غيمة الوان واحاسيس تمطر أفكارا ورؤى
في مرسمها، الدهشة تقتاد العقل محفوفا بمشاعر واحاسيس تتراقص مثل عصافير الصبح في بستان يبذخ فاكهة ناضجة... في مرسمها تلبس الأفكار والرؤى الوانا مائية في الصيف، وفي الشتاء تلتحف الوانا زيتية، اعمالها تتمخض فيها ثلاثة ارحام قبل ولادتها على لوح او جدار. الرحم الأول حس يشتعل في موقدها اليومي، تتلوى قربه بين برد قارص ولهيب حارق. ينتفض العقل يبحث عن خيار غير الاثنين ويمارس كل وسائل التجريب، يبقى منشغلا في الحال. يُدخل برودة الحياة القاسية في حريقها اللاهب، منتِجا طقسا قد يمتد مناخا لعديد من الأعمال. هذا هو الرحم الثاني، اما الرحم الثالث الذي يلد العمل الفني فهو هجين بين الرحمين. اذ يتقاسم العقل بخياله ومعارفه ورؤاه وكل طاقاته العملَ مع الاحاسيس والمشاعر بشفافيتها ورقتها وهواها ووجعها ونشوتها.
يتداخل الواقع والرؤى والاحلام في اعمال المحيسن اذ تُعبر الألوان عن مضامين ودواخل الاشكال التي خلقتها الأفكار والاحاسيس. ففي لحظة انفعال ما تجد الألوان تتدفق هائلة كانها عاصفة عاتية تجتاحك وانت تتأملها. وفي حال أخرى تسحرك الوان دافئة عذبة تدخلك عالما مخمليا، ومرة أخرى تجد نفسك تائها امام اعمالها وهي تغور بك في عوالم الخيال والتاريخ وحتى الجغرافية الطبيعية التي لم يرها احد.
مشاريعها كثيرة جدا وأُفقها واسع بسعة الفضاء الذي يسبح فيه عقلها واحاسيسها ولكن الواقع ضيق جدا لا يتسع حتى لضربة فرشاة من خيالها. تعمل باحتراف متقن ولكن الاحتراف لا يجد سوقا تسبح فيه الاعمال كسمكات بحرية، لتكون قوتا لفن لا يعيش بدون مردود يساوي قيمته، آخير اعمال الفنانة وليس آخرها مشروع فني يحاكي مدينة اربد عروس شمال الاردن. ومع انه عمل جداري يُجسّد ويُرمّز تاريخ المدينة منذ عشرات القرون والى حاضرها الان الا انه لم يجد الاهتمام والتمويل فظلّ منتظرا على الورق المقوى يتلوى حسرة على حياة كانت ستمنحها له مها المحيسن .
في لحظات وحالات ما، تصبح اللوحة مرآة عند المحيسن بشكل سحري تكشف لها كنه المستقبل، ترى فيها ما لا يستطيع الواقع ان يكشفه، اللون والشكل والخطوط تشكل صورة لمستقبل الفنانة، ولما قد يحدث لها في المستقبل. وهنا تنحاز اعمالها – في هذا المضمار – الى عالم الغيب، غيب في الغالب كان صادما للفنانة التي شرعت بتجنبه خوفا مما لا تريد ان يقع لها. فعندما ترسم نفسها انما ترسم ما سيُحدثه الزمن القادم في حياتها.
المحيسن امرأة مسكونة بالود والخوف والترقب تستشعر المستقبل ولا تستطيع تغيره او تجنبه، فتتكأ على الشجاعة والحب، وجناحها – الفن – لتطير في عوالم الامل والحلم والخيال والأفكار وترسم مجرة جديدة من التكوينات الحسية والعقلية في غيمة الوان، عاصفة ممطرة مرة، وهادئة متريثة تنثر زهرا مرة أخرى، تسبح فيها، وفي الغالب يقطر احساسها في مساراتها الوانا تتنفس منها حياة جديدة بعناصر تكفي للوجود الحي الفاعل.
***
عمّان \ محيي المسعودي