أقلام حرة

محمد الزموري: عالم الأمس.. وبؤس اليوم

في كتابه «عالم الأمس»، فتح الفيلسوف ستيفان تسفايغ نافذة تطل على أوروبا التي كانت ذات يوم تظن نفسها خالدة، فإذا بها تتبخر مثل فقاعة صابون في صباح التاريخ. أوروبا التي وصفها تسفايغ لم تكن قارة، بل متحفًا للوهم. قصور من ورق، وجوه تبتسم بثقة العميان أمام الهاوية. كل شيء كان مرتبًا كصندوق موسيقى بورجوازي يعزف نغمة الرخاء الأبدي، حتى نفدت البطارية.

في مذكراته، التي كتبها كمن يدوّن نعيَ عصره، يرثي تسفايغ انقراض الإيمان بالتقدّم، وسقوط فكرة الأمن كقيمة كونية. كان جيله، كما قال، يعيش الانتقال من عالم الهويات المتعددة إلى زمن الهويات المتخشبة، حين صار كل إنسان اختصارًا لوطنه أو حزبه أو طائفته، لا لذاته.

في الصفحات الأولى، يرسم تسفايغ صورة أوروبا الوادعة: بيوت رصينة لا تضحك بصوت عالٍ، آباء يدّخرون كالعناكب، وفنّ يُناقش بجدية أكبر من السياسة. كان المال موجودًا، لكنه لا يُعرض في واجهات الحياة. الكرامة تقاس بعدد السلالم التي تصعدها ببطء، لا بسرعة. وكان الاحترام الاجتماعي مرتبطًا بمدى قدرتك على التثاؤب بوقار. يا لها من جنة! جنة تخاف الفوضى وتؤمّن نفسها ضد المفاجأة، حتى ضد القدر.

لكن ما إن اهتزّت الريح حتى اكتشف سكان القصور الورقية أن بيوتهم ليست من حجر، وأن التأمين لا يشمل نهاية العالم. جاء الانفجار العظيم للحضارة، ومعه الحروب، والمنافي، والدماء. خسر تسفايغ كل شيء تقريبًا: بيته، لغته، وطنه، وحتى إيمانه بأن الإنسان يمكنه التعلم من أخطائه. ومع ذلك، قال بمرارة الفلاسفة: لقد عشنا أكثر من آبائنا، لأننا تعلمنا أكثر مما ينبغي.

كتب تسفايغ: «لقد مرّ على حياتي كل خيول القيامة: الثورة والجوع، التضخم والرعب، الأوبئة والمنفى. رأيت بأمّ عيني ولادة الأيديولوجيات الكبرى، من الفاشية إلى النازية، ورأيت كيف تسمّم القومية زهرة الثقافة الأوروبية.»

كأنه كان يكتب عن الحاضر، هذا القرن الذي أعاد تدوير كوابيس القرن الماضي. فالتاريخ اليوم لا يسير، بل يلهث. كل شيء يتسارع: المال، الأخبار، السلاح، وحتى الغباء. التقدم التقني الذي وعدنا بالفردوس الرقمي، صار قطارًا بلا مكابح. ظننا العالم متوقعًا، فاكتشفنا أننا كنّا نعيش في شاشة عرض، لا في واقع. انتقلنا من عصر الأمان إلى عصر القلق المزخرف بلغة «الابتكار» و«التحول الأخضر» — مفردات أنيقة لإخفاء موت العمل، ونهاية نموذجنا الصناعي المتغطرس.

ولأن العبث لا يشيخ، ها نحن نعيش زمنًا كان يُفترض أن يكون ما بعد الحرب، فإذا بالحرب تعود إلينا مرتدية بذلة حديثة. حروب اليوم تذكّرنا بأن الماضي لا يموت، بل يغيّر زيه فقط. الغريب ليس في أن التاريخ يعود، بل في أننا نصدّق أنه غادر أصلاً.

أما الصراعات الحديثة التي تتغنّى بالتغيير، فهي مجرد حفلات تمويه، صالحة للاستعمال تحت مظلة الرأسمالية، لا ضدها. كان تسفايغ يكتب في زمن انهارت فيه الديمقراطيات واحدة تلو الأخرى، بينما كنا نظن أن التاريخ انتهى عند أبواب بروكسل!. ما زالت الإنسانية تعيد نفس المسرحية الرديئة، فقط غيّرت الديكور واستبدلت موسيقى المارش بالبوب.

تسفايغ لم يكن عرافا، لكنه كان يرى النهاية قبل أن تصل. نحن، أحفاد تلك النهايات، نعيش في عالمٍ من ورق إلكتروني، نظنّ أنه من فولاذ. الفرق الوحيد بيننا وبين أهل عالم الأمس أننا نملك إنترنت أسرع… لنشاهد سقوطنا في بث مباشر.

***

الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

في المثقف اليوم