أقلام حرة
عبد السلام فاروق: نعشق أم كلثوم.. ونرقص على "عنبة"!

كلما ارتفع صوت أم كلثوم من راديو جدتي الباكي، كنا نرتجف كأوراق الخريف أمام إعصار الجمال. كانت أصواتهم - من فريد إلى وردة، من عبد الوهاب إلى عدوية – أشبه بجغرافيا مقدسة. كنا نسير في تضاريس كلمات بيرم وألحان بلبل الشرق، فنخسر أنفاسنا ولا نطلبها مرة أخرى. كانت الأغنية وطناً، واللحن جواز سفر إلى أعماقنا.
فماذا حدث؟
لم يسقط الفن من سماء القيمة إلى أرض الابتذال بين ليلة وضحاها. لقد سحب البساط من تحت أقدامنا ببطء. صرنا نعيش في زمن "المسخ الثقافي": (جيبة) أحمد سعد يصرخ في الصحراء بلا معنى، وحمو بيكا يرقص على أنقاض اللحن، وشاكوش يصنع إيقاعاً كالمطرقة على رأس الذائقة. السؤال ليس عنهم.. بل عنا: كيف قبلنا أن يصبح الفن مجرد ضجيج؟
نرفع أصابع الاتهام نحو "الرقمنة" كأنها شيطان أتى ليخطف أرواح الألحان. لكن الحقيقة أكثر مرارة: السوشيال ميديا لم تخلق الفراغ.. كشفت عنه. لقد حولنا الفن إلى "محتوى قابل للاستهلاك السريع". صار المغني ينتج كما تنتج ماكينة الكباب. والجمهور يبتلع دون مضغ. لم نعد نطلب رسالة.. نطلب فقط "الهزة": رقصة تيك توك، لازمة سخيفة، إثارة بصرية تختفي بعد ثانيتين.
الخراب الجميل: كيف قتلنا الحنين بأيدينا؟
نحن جيل يعاني من انفصام تاريخي. نحمل في قلوبنا حنيناً لأغاني العظماء، وفي هواتفنا أحدث أغاني "عنبة"، ننتقد بلسان ما زال يعبق بعطر زمن مضى، ونشترك بأصابعنا في ترويج الفن الهابط، لقد سمحنا للرأسمالية المتوحشة أن تحول الفن إلى سلعة رخيصة: الإنتاج السريع، الانتشار الواسع، الربح الفوري. صار الفنان "ماركة تجارية" لا صاحب رسالة.
من المسئول عن تخريب الذائقة؟
هل تعلم أن إنتاج أغنية "حمو بيكا" لا يتجاوز تكلفتها سعر هاتفك الذكي؟ بينما كانت جلسة لحن لعبد الوهاب تستغرق شهوراً. المعادلة بسيطة:
- فن العظماء = زمن + روح + مال
- فن اليوم = كمبيوتر + أوتو-تين + دقائق
لقد غيرت المنصات معادلة الربح، لم يعد العائد من الألبومات، بل من عدد المشاهدات. والمشاهدات لا تحتاج عمقاً.. تحتاج صدمة عابرة.
هل هناك مخرج؟
نعم.. لكنه ليس في لعن الظلام.
المشكلة ليست في وجود "شاكوش"، بل في غياب البديل الجريء. نحتاج إلى:
1. نخبة ثقافية تخلق فناً معاصراً يحترم العقل دون أن يخون الجمال.
2. تغيير معادلة الربح من خلال دعم منصات تروج للأغنية العميقة حتى لو لم تحقق "تريند".
3. تعليم الأطفال كلمات السياب قبل أغنيات "التيك توك".
بالتأكيد الفن العظيم لم يمت.. بل صار منفيّاً في زوايا صغيرة. في استديوهاتمغمورة، على قنوات يوتيوب لم تكتشف بعد، في قلوب شباب يرفضون أن يكونوا "معلبي ثقافة".
السؤال الخطير ..
هل نستحق أن نرث تراث العظماء ونحن ندفنهم كل يوم في مقابر الابتذال؟
الخراب الذي نراه ليس سقوطاً للفن.. بل سقوطنا نحن. وليس هناك من خلاص إلا بمقاومة يومية أن نرفض أن نكون مجرد مشاهدين. أن نختار الجمال.. حتى لو كلفنا ذلك أن نكون وحيدين.
نحن لم نكن نستمع إلى أم كلثوم وعبد الوهاب وفريد.. كنا نختطف. كان الصوت يأخذنا إلى مكان لا نملك فيه إلا أن نسلم روحنا للجمال. كنا نخرج من الأغنية كما يخرج المتعبد من محرابه: منهكين، ممتلئين، عارفين أننا لم نعد كما كنا. اليوم، نخرج من أغاني "التيك توك" كما نخرج من دورة مياه عامة: بسرعة، بلا أثر، وبعضنا يحمل عدوى.
اغتيال الزمن
كانت الأغنية القديمة تبنى كما تبنى الكاتدرائيات: طبقة فوق طبقة، جهداً فوق جهد، روحاً فوق روح. اليوم، الأغنية تصنع كالوجبة السريعة: دقيقتان من الإيقاع، كلمة تعلق في الأذن، ثم يرمى المستمع كعلبة فارغة. الزمن نفسه صار عدواً للفن. لم نعد نتحمل أن تستغرق الأغنية أكثر من ثلاث دقائق، أو أن تحتوي أكثر من فكرة واحدة. صرنا نريد "الخلاصة" قبل النص، و"البوست" قبل الكتاب.
موت المؤلف.. وولادة "المنتج"
لم يعد الفنان هو ذلك الكائن الحالم الذي يسكب ألمه فوق أوتار العود، بل صار "مشروعاً استثمارياً". الـ"تراك" لم يعد عملاً فنياً، بل "سهم" في بورصة المشاهدات. حتى الكلمة فقدت قداستها. لم يعد هناك "شعراء أغان"، بل "صناع محتوى". الكلام لم يعد يكتب، ينسخ. اللحن لم يبتكر، يجمع.
الجمهور الذي خان نفسه
نحن لا نلام فقط لأننا قبلنا الرديء، بل لأننا صنعناه. الجمهور اليوم لا يطلب الفن، يطلب "الضجيج". لا يريد أن يشعر، يريد أن يهتز. لا يبحث عن معنى، بل عن "هاشتاج". والأخطر أننا صرنا نتعامل مع الفن كخلفية لحركاتنا، لا كصديق يحاور وجداننا. نسمع الأغاني كما نشرب القهوة: بلا تذوق، بلا تركيز، بلا أثر.
هل الضياع حتمي؟
في زوايا العالم، بعيداً عن الأضواء الصاخبة، ما زال هناك من يصنع الفن الحقيقي.
شباب يكتبون الشعر على أوراقهم قبل أن يضعوه على "النت"، مغنون يرفضون أن يكونوا "براند"، ملحنون يعيدون اكتشاف النغمات المنسية..هم لا يظهرون في التريند، لكنهم يزرعون بذوراً قد نراها بعد سنوات.
لو عاد بنا الزمن إلى أيام عبد الحليم، لوجدنا أن "الرديء" كان موجوداً أيضاً، لكنه لم يسيطر. لماذا؟ لأن هناك من دافع عن الجمال. اليوم، المعركة أصعب، لكنها ليست مستحيلة. كلما اختار أحدنا أن يستمع إلى أغنية عميقة بدلاً من الضجيج، كلما أعطى فرصة للفن الحقيقي أن يتنفس.
السوشيال ميديا: سلاح ذو حدين
نعم، هي التي نشرت الرديء، لكنها قد تكون منقذه. هناك منصات بدأت تكرم الفن الهادف، قنوات ترفض أن تكون مجرد "أرقام"، جمهور صغير لكنه مخلص يبحث عن الجمال في زمن القبح.
الفن العظيم لم يمت.. هو فقط يختبئ في زمن لا يستحقه. المشكلة ليست في وجود "حمو بيكا"، بل في اختفاء من يرفضون أن يكونوا مثله. السؤال ليس "لماذا صار الفن هكذا؟"، بل "هل ما زلنا نؤمن بأننا نستحق الأجمل؟".
نحن أمام خيارين:
إما أن نستسلم، فنصبح مجرد مشاهدين في سيرك الابتذال. أو نقاوم، ولو كنا القلة.. ولو كلفنا ذلك أن نغني في الظلام. لأن الفن الحقيقي لا يحتاج إلى مليون مستمع.. يحتاج فقط إلى واحد يفهمه.
***
د. عبد السلام فاروق