أقلام حرة

حميد علي القحطاني: حين يسقط الإنسان ليقوم بالوعي

تبدأ رحلة الإنسان على هذه الأرض لا كخطٍّ مستقيمٍ مرسومٍ بصرامة العقل، بل كأمواجٍ متلاطمة بين مدٍّ وجزر، بين قمةٍ يتلألأ فيها الإنجاز، ووهدةٍ يتهشّم فيها القلب قبل الجسد. فالسقوط ليس دومًا مادّةً تُرى بالعين، بل قد يكون اصطدامًا عنيفًا للروح بذاتها، حين تواجه النفس حقيقتها عارية بلا أقنعة. هناك، حيث الألم لا ينزف جرحًا بل يقطر وعيًا، يتجلى الانكسار كبداية لا كخاتمة، ويتحوّل الوجع إلى بشارة تغيير، ونبوءة يقظة، وجرس دعوة إلى تأملٍ عميقٍ وتحولٍ داخلي.

في تلك اللحظة الفاصلة، يقف الإنسان أمام مرآةٍ خفية، يسائل ذاته لا عن زلاتها الظاهرة فقط، بل عن جذور دوافعها وظلالها الغامضة. يتأمل صراعه الداخلي كما لو كان ينظر في صميم روحه، حيث تتجلى التناقضات وتنكشف المكبوتات. ومن بين هذا الركام، تولد الإرادة من جديد: إرادة لا للنهوض بالجسد وحده، بل للقيام بالوعي ذاته، وعيٍ فلسفيٍّ يبحث عن المعنى خلف ستائر الوجود. وكما قال يونغ: "لا وعي بلا ألم"؛ فالألم هو المخاض الذي يولّد بصيرة، وهو البوابة التي نعبر منها إلى ذواتنا الأعمق، لنجد في ظلمة السؤال نور الفهم، وفي قسوة التجربة بذور الحكمة.

ويمضي الإنسان في دروبه، مترنحًا بين العواصف وضجيج العالم، لا بخطوات الواثق من الطريق، بل بعزيمة المستند إلى إيمانه بأن وراء كل محنة حكمة. تغيم الرؤية أحيانًا بغبار الحياة، وتثقلها أوهام المعرفة السطحية، وضغوط المجتمع، ومخاوف الوعي الجمعي. لكنّه رغم كل شيء، يحدّق في الضباب، يعثر ثم ينهض، يتأممل ثم يعيد التأمل، مدركًا أن الحقيقة ليست عطية تُسلَّم دفعة واحدة، بل هي جوهرة تستخلص ببطء، حبةً حبةً، من بين غشاوة الإدراك المحدود. إنها عملية بناء مستمر للمعنى، وليست اكتشافًا لسرٍّ مكتمل.

وحين يشيخ الجسد وتغدو النظرة مثقلة بسنينٍ عاصفة، يحدث التحوّل العظيم: ليس فقط في العين التي وهنت، بل في البصيرة التي أنضجتها التجارب. يرى الإنسان حينها الأشياء لا كما كانت تُرى في ربيع العمر، بل كما صاغتها السسنون وحرقتها التجارب. لم تعد الخبرات صورًا عابرة، بل صارت خرائط وجودية ترشده في إدراك العالم. يغدو مهندسًا لا لبيته المادي فحسب، بل لحلمه الوجودي، لمصيره، ولمعنى وجوده. وكما أشار أرسطو: الحكمة العملية فضيلة عقلية، تمكّن المرء من اتخاذ القرارات الصائبة. إنها حكمة تتجاوز حدود الفكر لتصبح فعلًا وجوديًا وأخلاقيًا.

تلك الحكمة لا تولد من قراءة الكتب وحدها، بل من احتراق الروح في أتون التجربة. هي عصارة جراحٍ صقلت العقل، وأفراحٍ وسّعت القلب، فالتأمت شظايا الوجود في لوحة واحدة، مليئة بالبصيرة. يمضي بها الإنسان واثق الخطى، لا مضطربًا يلهث خلف السراب؛ بطمأنينة من رأى ما وراء الأفق، وذائقة من قطف قبسًا من نور الحكمة يهتدي به ويهدي به الآخرين. عندها يبلغ ذروة الرحلة: حيث تتحد المعرفة بالحياة، ويصير الوعي حكمة مجسَّدة.

هذه هي حكاية الإنسان: حكاية سقوطٍ لا يُميت، بل يُعلِّم، وحكاية بحثٍ لا ينططفئ بل يسمو بالروح. إنها قصة كل عقلٍ عطش للمعنى، وكل روحٍ تطلب النور، حتى وإن لم تجده إلا ساعة تفلت اليد من حبال الدنيا. وكما قال فيكتور فرانكل: "لكل إنسان سعيٌ فريد نحو المعنى"؛ وهذا السعي هو ما يمنح الحياة قيمتها، ويرفعها من مجرد بقاءٍ بيولوجي إلى تجربة إنسانية سامية، مليئة بوهج الوعي ونور الحكمة.

***

حميد علي القحطاني

 

في المثقف اليوم