أقلام حرة
حسام عبد الحسين: عندما تصبح الثقة بالنفس تهمة التكبر

وفق قاعدة "اخلاق المجتمع انعكاس لاخلاق السلطة" نجد في مجتمعنا العراقي وفي بعض مجتمعاتنا في العالم العربي، حيث التواضع فضيلة مقدسة، أصبحت الثقة بالنفس تُقابل بتهمة "التكبر" و"الغرور". هذا الخلط الخطير يحوّل إنجازات الفرد إلى عُقدة ذنب، ويجعل تميّزه الشخصي أو اكتفائه بنفسه جريمة في حق الجماعة. فهل كل من يُقدر كفاءته متكبر؟
إن هذه المشكلة تنطلق من جهل مركب بين سلبية التدخل بشخصية الغير وبين الجهل بتفسير سلوك التكبر وسلوك الثقة بالنفس، وهذا الجهل المركب تؤسسه النخب الرأسمالية الحاكمة داخل المجتمع بثلاثة طرق:
1. تزييف الوعي: بإقناع البسطاء بأن تقدير الذات خطيئة ضد الجماعة، وتحويل انتباههم عن استغلال النظام الاقتصادي عبر تشويه فضائلهم النفسية.
2. إنتاج التبعية الثقافية: تكريس فكرة أن تواضع البسطاء فضيلة، وثقة الاثرياء او من في السلطة حقٌّ طبيعي. كمثال: الموظف الذي يطالب بحقوقه يُوصف بـ"المتكبر"، بينما صاحب العمل "واثق بنفسه".
3. تحويل الثقة إلى رأس مال رمزي ثقافي تمنحه المدرسة، الجامعة، الاسرة لخلق ما يسمى المستوى الاعلى. مثل: طالب يُمنح ثقة مفرطة لأن أباه مسؤول كبير، بينما يُوصم ابن العامل بأنه "متكبر" إذا تجرأ على الحلم بالمنافسة.
هذه النقاط الثلاث تجهد السلطة نفسها وتخصص الموازنات المالية في الاعلام والفن والدراسات الاكاديمية لتحقيقها. كمثال: تمجيد تواضع الفقراء ك"قدوة"، وتقديس الخنوع باسم "الرضا".
لكن لماذا تخاف النخب الرأسمالية الحاكمة من الثقة بالنفس لطبقة المجتمع الطبيعية؟
لأنهم يدركون أن الثقة وعي (غرامشي) وتمرد على الطبقة التي تعتقد زورًا انها "اعلى"، وحين يدرك الانسان أن مهاراته تخلق فائض القيمة عن جهده، يستلب هذا الفائض لصالح البرجوازية الحاكمة، فلا يبقى له إلا فتات الأجر. عندها سيسأل بحق: لمَ ينهب جهدي؟
ومن ناحية اجتماعية عملية نجد أن تهمة التكبر تطلق على الثقة بالنفس ناتجة عن:
1. ثقافة الخواء/ مثلا عبارة "لا تظهر ما عندك" هذه العبارة تُربي اجيال على إخفاء تميزهم خوفًا من "العين" أو "الحسد"، فتصبح الثقة انحرافًا.
2. الخلط بين التواضع والتذلل: حيث التواضع الحقيقي هو احترام الآخرين دون انتقاص الذات. لكن البعض يريدك أن "تنكر إنجازاتك" كدليل على ادبك وتواضعك!.
3. عقدة النقص الجماعي: عندما يشعر المحيطون بنقص في أنفسهم، تصبح الثقة اختلاف وتهديدًا لهم، فيُحوّلون إحساسهم إلى هجوم بصيغة التكبر.
لذا الثقة بالنفس أن تعرف قدراتك الحقيقية وتتصرف بناءً عليها، أن تكون مكتفيًا بذاتك دون احتقار الآخرين، بينما التكبر أن تتعامل مع الآخرين وكأنك أفضل منهم دون سبب موضوعي، بل مجرد أوهام بانك الافضل، تزرعها بالنفس السلطة والاسرة والمدرسة والاعلام وجزء من الفن.
الأخلاق السائدة مثل تمجيد تواضع الفقراء ليست قيمًا مجردة، بل بنية فوقية خلقتها البرجوازية لتبرير التفاوت الطبقي. وإن تحرير الوعي ضرورة، لكنه غير كافٍ دون مصادرة وسائل الإنتاج من البرجوازية.
إن تغيير هذا النمط بحاجة الى نظام سياسي حاكم يرعى الانسان أولا وهنا يبدأ بتغيير النمط، كما ذكرنا في المقدمة (اخلاق السلطة انعكاس لاخلاق المجتمع)، ثم الاسرة والمجتمع المدني والتعليم في بناء الثقة الصحية والتواضع الانساني وطرد "التواضع المتذلل" "ومرض التكبر المتخلف" من بيئة حياة المجتمع والانسان ذاته، لكن هل يكفي تغيير السلطة؟ المجتمع نفسه بحاجة لثورة ضد "التواضع المزيف" الذي يكرّسه الأفراد عبر قول: "اسكت ولا تطالب بحقك".
ولدينا تجارب في العالم العربي ناجحة مثل مبادرة "أنا أشارك" في تونس حيث تحويل المدارس إلى حاضنات للثقة بالنفس لا تنتج عُقدة التفوق، بل وعيًا بالذات وبالاخر. أما في لبنان، فحملة "شو مهارتك؟" الإعلامية، التي فككت عن طريق قصص الناجحين الوهم القائل: "إظهار تميزك تكبر". لكن هذه التجارب تطلق شرارة الوعي، لكنها لا تقوض النظام الرأسمالي الذي ينتج الهيمنة. فتحرير التعليم والاعلام يجب أن يقترن بتدمير علاقات الإنتاج الاستغلالية.
وهنا يظهر أن النظام السياسي الحاكم بيده ادوات الهيمنة القادرة على صناعة تخلف المجتمع أو دفعه الى الأمام.
السؤال: متى ندركُ أن تشويه الثقة بالنفس ليس تراثًا نحميه، بل سلاحًا فتاكًا صممته الأنظمة الحاكمة لتحويل طاقاتنا إلى رماد؟.
التغيير يبدأ بوعي فردي يرفض وصمة "التكبّر" حين تطالب بحقّك، وجماعيًا برفض "ثقافة الخواء". التجارب التونسية واللبنانية أثبتت: تحرير الوعي ممكنٌ إذا حوّلنا التعليم والإعلام من أدوات هيمنة إلى جسور نحو الذات.
والحل ليس في مفاصلة بين الفرد والسلطة، بل الحل لا يكمن في الاصلاح الفردي بل في دفع المجتمع الى حركات تغيير ثورية تُزيل هيمنة البرجوازية ثقافيًا وماديًا، وتعيد تملك فائض القيمة.
فهل ننتظر نظامًا سياسيًا يغيّرنا، أم نكون نحنُ من يخلق نظامًا جديدًا تُصان فيه كرامة الإنسان، وتُحترم فيه ثقته بنفسه؟.
***
حسام عبد الحسين