أقلام حرة

سجاد مصطفى: العبيد لا يعرفون أنهم عبيد

الحريةُ لا تُمنَحُ صدقةً، ولا تُلقَى في طريق العابرين؛ إنما تُنتزعُ انتزاعًا بالعقل، وبثورةِ الوعي، وبكسرِ كلِّ قيدٍ لبسه العقلُ وهو يحسبه تاجًا

 حين تمشي العبودية متبخترةً

ثمة عبوديةٌ لم تُخلَق في سوق النخّاسين، ولم تُصنَع من حديد، ولم تُقيَّد بها الأرجل أو الأيدي، بل صيغت في غفلةٍ من الفكر، وارتسمت ملامحها في أروقة العادة، ولبست قناع الفضيلة، وسُمّيت طاعة، وحياء، وخشية من الخروج عن السرب.

العبد اليوم لا ينظر إلى قيده فيستبشعُه، بل يُقبّله ويزخرفه، ويخاف من فقدانه كما يخافك الجاهل من النور.

وقد قال نيتشه – وما أصدقه: العبودية ليست في الأغلال، بل في الطاعة العمياء

وأقول: ما أكثر من لبس قميص العبودية وظنّهُ رداء الحكمة

في الطاعة القاتلة... تموت الأرواح.

الناسُ – إلا من رحم الله – يهابون الحرية، لأنها مقلقة، متطلّبة، تُجبرك أن تكون نزيهًا مع نفسك، أن تُراجع معتقداتك، أن ترفض ما لا تقتنع به، ولو اجتمع عليه أهل الأرض.

ولهذا قال علي شريعتي:  الناس لا يهربون من السجون، بل من الحرية، لأنها مسؤولية. أليس من المؤسف أن ترى من يُحرِّم على نفسه التفكير؟ ومن يُجرِّم السؤال؟ ومن يخشى أن يشكّ؟

أليس ذلك هو قيدٌ أشدُّ من الحديد؟

إنَّ الخنوع للفكرة السائدة، والمسايرة لأهواء القطيع، هما اللذان يصنعان من الإنسان تمثالًا صامتًا، يمشي مع الناس ولا يعلم إلى أين.

وقد قلتُ: العبد لا يُعرفُ من سلاسله، بل من خوفه من السؤال، ومن لسانه الذي لا ينطق لا بلادٌ تُنتج العبيد وتُبجّلهم

ما أكثر الأوطان التي تحترفُ إنتاج العبودية، فتربّي أطفالها على الطاعة لا الفهم، وعلى الحفظ لا التحليل، وعلى الصمت لا الجدل، وعلى القبول لا الرفض.

كل شيءٍ فيها مرسومٌ، وكل انحرافٍ عن المألوف خطيئة.

يُعلَّم الطفل كيف يُحسن التكرار، لا كيف يُحسن التفكير.

يُعلَّم الشاب كيف يُنصت للسلطة، لا كيف يُقيمها.

قال العالم العراقي عبد الجبار عبد الله:

ما يؤلمني أن العقل العراقي اختار الجهل لأنه أسهل، وهرب من السؤال لأنه مرعب

وأنا أضيف:

 أخطر أنواع الجهل، ذاك الذي يُزيَّن لصاحبه ويُلبس ثوب التديّن أو العقلانية، فيظلُّ غارقًا فيه وهو يظنُّ نفسه حكيمًا

عقولٌ تُسلَّم مفاتيحها

ثمة شعوبٌ لا تحارب من يسجنها، بل تحارب من يُحاول تحريرها

لأن الخروج من القيد يتطلبُ صدمة، والصدمة تُزعزع وهم الطمأنينة، والناس – بطبعهم – لا يحبّون من يوقظهم من سباتهم.

هم لا يكرهون الجلّاد بقدر ما يكرهون الذي يعرّفهم بأنهم عبيد.

قال إتيان دو لا بويسي:

 ليس الغريب أن يُستعبد الناس بالقوة، بل أن يختاروا العبودية وهم قادرون على التحرر وهذا ما أراه اليوم ماثلًا أمامي في مجتمعي عبوديةٌ باسم الدين، وأخرى باسم العُرف، وثالثة باسم الوطنية، ورابعة باسم ما يقولون الناس، حتى صار الواحد يُقيّم نفسه بمزاج الآخرين، لا بقيمته هو.

من هو الحر حقًّا؟

أن تكون حرًا لا يعني أن تصرخ، ولا أن ترفض فحسب، بل أن تفهم لماذا ترفض، وأن تتحمل تبعة رفضك، وأن تبقى ثابتًا ولو كنت وحدك. الحر هو من لا يخاف من أفكاره، ولا يستحي من منطقه، ولا يُساوم على عقله.

وقد قال الفيلسوف العراقي هادي العلوي: أمةٌ تُقدّس الماضي، لا تصنع المستقبل، بل تُعيدُ إنتاج التخلف

وأقول بدوري: الحرّ لا يولد من رحم الكثرة، بل من رحم العزلة، حيث لا ضجيج، ولا تملّق، بل صوت العقل وحده

الخاتمة: ثورة الوعي أول المعركة

في عالمٍ تتنكر فيه العبودية بألف وجه، ليس أمامك إلا أن تبدأ بالمعركة داخلك، أن تشك، وتفكك، وتعيد البناء.

الحرية لا تبدأ من الخارج، بل من الداخل.

ومن لم يُحرر عقله، سيظلُّ عبدًا وإن ظنَّ أنه سيّد.

العبد الحديث لا تُقيّده الأغلال، بل يُقيّده خوفه من الاختلاف، وإدمانه للقبول، وخشيته من أن يُقال عنه خرج عن المألوف

***

الكاتب سجاد مصطفى حمود

........................

الهوامش:

1. نيتشه، فريدريش. هكذا تكلم زرادشت. ترجمة فليكس فارس. دار التنوير.

2. شريعتي، علي. النباهة والاستحمار. مركز دراسات الحضارة الإسلامية.

3. عبد الله، عبد الجبار. رسائل غير منشورة. بغداد: دار الوراق، 2012.

4. بو لا بويسي، إتيان. مقالة في العبودية المختارة. ترجمة مصطفى صفوان.

5. العلوي، هادي. من تاريخ التعذيب في الإسلام. دار المدى، دمشق.

في المثقف اليوم