أقلام حرة

حميدة القحطاني: من يعيد للأخلاق والأدب والذوق اعتبارهم؟

"كن ابن من شئت واكتسب أدبًا، يُغنيك محموده عن النسب."

في زمن ما بعد الحداثة والعولمة، نعاني من ضمور حاد في المنظومة الأخلاقية، وانحسار كبير في الذوق والوعي الإنساني. هذا التراجع المفرط خلّف فئةً مغتربة عن المجتمع، تعيش في عوالمها الخاصة، تعاني من صعوبة التجانس مع السطحية المقيتة التي باتت سائدة.

تجاهد هذه الفئة في صناعة الأثر وإضفاء قيمة على الوجود، لكنها قابعة في عزلتها، كفراشة في شرنقتها، تودّ التحرر والانطلاق نحو النور، ولو كان الثمن حياتها. غير أن التسافل والانحدار المحيط يقف حاجزًا بينها وبين النور، فتخشى أن تُستهلك قبل أن تبلغه.

الناس على السطح كالسُكارى:

منهم من يبدو ثملًا حزينًا، ومنهم من ينتشي بنشوة زائفة، غافلًا عن خطورتها على مسار وجوده ودوره ومسؤوليته. باطنه يئن من الاغتراب والخواء، لكنه يستمر في الدوران، كما لو كان آلة بلا وعي.

لم يعد الكثير من الناس "أنسًا" حقيقيًا، فلا روح تُلامس، ولا قلب ينبض بحضورهم. أحاديثهم مستهلكة، سطحية، مجرد ضجيج يلبّي حاجة بيولوجية للكلام.

يُفرطون في الاستهلاك حتى في اللغة، ويشحّ فيهم الإنتاج والأثر الحقيقي. يتزاحمون في ميادين النجاح الوهمي، ويُفتنون بنتائج بلا جذور، بلا مرجعية، بلا هدف يسمو أو ضابط يوجّه.

كثيرون يتضخم فيهم الأنا، لمجرد سلطة امتلكوها أو مال جمعوه أو علم ظنّوا أنهم اشتروه، فيرفعون أنفسهم فوق خلق الله، وقد غاب عنهم أن التمايز عند الله لا يكون إلا بـ"قلبٍ سليم".

كثيرون أُمّيون في معرفة أنفسهم، غافلون عن سطوة رغباتهم التي تحركهم كيف شاءت. لم يميّزوا بين حاجات البقاء التي لا تنتهي، ورغبات النفس التي لا تُعد، وبين الرقي والسمو بالنفس.

لم يدركوا أن مصادر القوة والثقة الحقيقية، إنما تنبع من تزكية النفس، من الارتقاء بها، من معرفتها والعودة إلى حقيقتها.

لم يعوا أن الرحلة مؤقتة، وأن الموت والرحيل مصيرٌ محتوم، وأن كل نفس نأخذه هو خطوة نقطعها نحو هذا المصير.

فمن يعيد للأدب والأخلاق والذوق اعتبارهم؟

وهل يكون الإنسان إنسانًا حقًا بلا أخلاق أو أدب أو ذوق؟

وهل يُعدّ المثقف مثقفًا بلا وعي وتواضع فطري، وقلب مفتوح بالمحبة، وعينٍ تُبصر الجمال من الداخل لا من الخارج؟

ليتذكر الجميع أن الثقافة لا تنفصل عن التواضع، وأن الإنسان لا يُقاس بعلمه ولا بماله ولا بجاهه، بل بذوقه، وعمق إنسانيته، وصفاء قلبه.

***

د. حميدة القحطاني

 

في المثقف اليوم