أقلام حرة

مصطفَى غَلْمَان: طواسينُ الخير

(إِن الله يخلص إِلَى الْقُلُوب من بره حسب مَا خلصت الْقُلُوب بِهِ إِلَيْهِ من ذكره فَانْظُر مَاذَا خالط قَلْبك).. الجنيد

كان الخير جنة، فهوى إلى السحيق، وصار بين ميل للماء وآخر للعطش، انعطاف للشبع المجنون، وأخر للجوع الحقير. هكذا تتلمس الأنفس مراعيها وأكنافها لتشحذ سواعدها كسبا ونهبا، عصفا ورصفا، كي تتوهم العيش وترفل في حياض من الدنيا لا تدوم كما تدوم الهناءة والتيسر، فيكون العقل في معدن القناعة والحكمة أشح من دعاء وأبكر من إيمان نظيف.

المجيب بالخير كالباحث عن كنز مجهول، يطاوع الذات في تصريفها وتجريفها، حتى تسال المواجد في فلوات الصحو، فلا يرعوي غير ناظم أو شاخص النظر. مرة يأتي كغيمة مرتابة، تدنو فتنفلت. وحينا يقضم الحسرة قبل الفكرة، فلا ينثني غير آبه بما يؤول ويجزم. فما للأخيار لا يعبرون الساعات المكشوفة في غوغاء السدم اللقيط؟ وما لهم لا يأبهون بما تدس لهم المكائد والصروف الدنية؟ حتى إذا جاء ما يعكس الخير، شرا كان أو ضرا، لزموا عزلة الزهد والتجاهل والإغفال المقصود، ولم يوغروا صدور العداوة ولا أعباءها الغاربة المكذوبة.

إنما يتبقى من شامة هذا اللطف الخيري، ما تشربه أخلاق ذاك المغمور المطمور في جبة الناسك، ذي العفة، المتمنع عن السخف والإسراف وضلالة القول. حتى إنه لا يحقر الصنيع أو الافتراء عليه، مهما كان نذرا من مستصغر الشرر. يقول الشاعر:

لا تحقرن صنيع الخير تفعله

 ولا صغير فعال الشر من صغره

*

فلو رأيت الذي استصغرت من حسن

عند الثواب أطلت العجب من كبره

بل إن في رتاق هذا الصلاح، ما يعدل حصول الوعد بالانتفاع والتجرد والممالأة. حيث يكون السالك فيها، كمن يزرع وينثر دون هوادة، معرفة واقتدارا بالحاصل منه، والناتج المرصود بعين القلب لا حساب اليد والأهواء:

له في ذوي المعروف نعمى، كأنه

 مواقع ماء القطر في البلد القفر

*

إذا ما أتاه السائلون لحاجة

علته مصابيح الطلاقة والبشر

من ثمة لا يعدل الخيرون السائلون، عن مجالسة حالات الإرواء وآثاره في الأرض الخصب والينابيع الموحشة. فلا ينكأ العلة غير افتضاضها بنباهة الدواء وفضيلة التدبير ونبل النية. والمصابيح المضيئة تكشف هذا التناظر المجيد، في أقصى الكينونة البشرية، حيث تكتسي دربة الرائي وتجربته في الحياة والتماس الخير، جدارة الوعي ونقاءه الباعث على الفيض والاستكانة والحلول، كحلول ماء الورد في الورد، فنُسمّى الساري حالاًّ، والمسري فيه محلاًّ، والواصل موصولا، والساكن مسكونا، والمبدع في سراة الليل قمرا مستنيرا.

كما أن للأرزاق أخيار، يزفون إلى مباهجهم، دون قهر أو تعب أو بحث مسرف. أرزاق بخير تمشي وتستدير. وخير بها يبادر إلى التجلي والتهجد، فينأى بشك الانتزاع والاستدبار. ومنها صفات تذكر في الصحف والأذكار، من بينها القناعة عند السخاوة، والرضا والقبول عند الابتلاء، و"كل راحة قناعة ما لم تضم"، كما قال مهيار الديلمي.

وقديما قال حكماء العرب: من نازعته نفسه إلى القنوع، ثم حسد الناس على ما في أيديهم، فليس ذلك لقناعة ولا لسخاوة، بل لعجز وفشل، فمثله كمثل حمار السوء الذي يعرج بخفة حمله، ويحزن إذا رأى العلف يوثر به ذو القوة والحمل الثقيل، فالقانع الكريم أراح قلبه وبدنه، والشره اللئيم أتعب قلبه وجسمه، والكرام أصبر نفوسا، واللئام أصبر أجسادا.".

إنها حجة على من يتوق إلى فعل الخير، فيأنف أن يذكر به إن قصد سحته ورياءه. وما الضائع في تينك الزلة، غير المبادر إلى العطاء والأثرة، من دون أن تعرف يسراه ما صدقت يمناه.

ومن التمس الخير صار خيرا. والأرزاق مقسومة معلومة، ولو نامت في قيعان البحار وصخورها المقبورة:

لعمرك ما الأرزاق من حيلة الفتى

 ولا سبب في ساحة الحي ثاقب

*

ولكنها الأرزاق تقسم بينهم

 فما لك منها غير ما أنت شارب

***

د. مصطفَى غَلْمَان

في المثقف اليوم