أقلام حرة
عبد السلام فاروق: هذا قرآننا نهديه لكم.. سحر التلاوة الذي يسكن الروح

لا تكاد تخطو خطوة في أرض الكنانة حتى تكتشف أن القرآن هنا ليس كتاباً يُتلى، بل هواءٌ يُستنشق. في حاراتها الضيقة، حيث تتعانق روائح الياسمين مع أصوات المؤذنين، تجد التلاوة حاضرة كرفيق دربٍ يومي. حتى الباعة في الأسواق يترنمون بآيات السجدة وهم ينسقون الفاكهة، وكأنهم يؤمنون بأن جمال الرزق يكمل بجمال الصوت. هنا لا تحتاج إلى مسجدٍ كبير لتسمع القرآن، فالمدينة كلها محرابٌ مفتوح، والشارع نفسه ينشد: "وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة".
انظر إلى جيل الشباب الذي ورث هذه الموهبة كسرٍّ سماوي. الشاب الذي يقرأ في مأتَمٍ ريفي بصوتٍ يزلزل الجدران، ثم تراه في اليوم التالي يجلس مع أقرانه في مقهى شعبي، يضحك ويحكي، وكأن ذلك الصوت العجيب جاء من عالم آخر ليمس روحه لحظة ثم يغيب. هكذا هم قراء مصر: يحملون النور بين ضلوعهم، لكنهم يخفونه تحت رداء البساطة، فلا يتعالون بالقرآن، بل ينزلون به إلى الأرض ليكون قريباً كحرارة الشمس.
الأمر أشبه بسر متوارث في دمائهم. الطفل الذي يسمع أباه يقرأ أثناء إعداد الإفطار، يتعلم دون أن يعي أن الترتيل ليس مجرد قواعد، بل إيقاع الحياة نفسها. حتى النساء هنا يُجِدنَ إدارة حنجرتهن بين التلاوة والهمس، ففي أحياء القاهرة القديمة، قد تسمع جارةً تهدي جارتها آية "وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً" عبر النافذة، فتتحول الكلمات إلى تحيةٍ يومية أرق من الندى.
وإذا كانت المدن الأخرى تفخر بأساطين القراء، فإن مصر تفخر بذلك المريد المجهول الذي يقرأ في ضريح السيدة زينب، صوته يمتزج مع دوي الطبول في الموالد، فيصنع مزيجاً من القداسة والشعبية لا يعرفه إلا من عاش تفاصيلها. هنا، حتى الحزن يتحول إلى تلاوة، ففي تشييع الجنازات لا تسمع نواحاً، بل تسمع "كل من عليها فان"، تُقرأ بتؤدةٍ كأن الموتى أنفسهم يطلبون تلك الهدهدة الروحية.
قد تسأل: كيف يحافظون على هذه الروح عبر الزمن؟ الإجابة تكمن في أن مصر لا تتوقف عن العطاء. فكلما ظننت أن زمن العمالقة قد ولى، يطل عليك قارئٌ شاب من محافظة بعيدة، يقلب موازين الأصوات المعتادة، كأن الأرض هناك لا تلد إلا العظماء. إنهم لا يكتفون بتقليد من سبقوهم، بل يزرعون اللحن القديم في تربة جديدة، فينبت صوتاً مختلفاً، لكنه يحمل نفس الجذور التي امتدت من زمن الرعيل الأول.
في الليالي الرمضانية، حيث تتزين الشوارع بالمصابيح والأناشيد، يصبح التنافس بين القراء عيداً للروح. كأن المصريين يقولون للعالم: "هذا قرآننا نهديه لكم، مشفوعاً بقهوتنا وضحكتنا وحكايات أجدادنا". حتى الغريب الذي لا يفهم العربية، سيقف مبهوتاً أمام ذلك التواشيح بين الصوت والصمت، كأن التلاوة هنا لغة عالمية، لا تحتاج إلى ترجمان.
لو أغمضت عينيك وأنت تستمع إلى الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، ستكاد ترى "الملكين" ينزلان يتفقدان ذلك الصوت الذي يشبه النور، أو تظن أن جبال سيناء تردد خلفه صدى "والتين والزيتون". أما الشيخ مصطفى إسماعيل، فكأنه ينسج من الحروف سجادةً من حرير، كل حرف فيها مطرَّز بإحساسٍ يذوب في الأذن كالعسل. وما إن تسمع الشيخ محمد رفعت حتى تعرف أن القرآن لم ينزل على القلب فقط، بل على الجوارح كلها، فصوته يأخذك إلى زمنٍ آخر، حيث البساطة عمق، والخشوع اتصالٌ مباشر بالسماء.
لم يأت هذا التميز من فراغ، فمصر التي احتضنت الأزهر الشريف عبر قرون، صارت منارةً لعلوم القرآن تتوارثها الأجيال كإرث مقدس. هنا يتعلم القارئ أن التلاوة ليست إتقاناً للنغمات فحسب، بل هي إحياءٌ للمعنى. حين يقرأ الشيخ الطبلاوي قوله تعالى: "وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور" ، تشعر أن الآية تُنزل أمامك كحدثٍ تراه بعين القلب، وكأن الصوت يخرج من صدر النبي نفسه.
والعجيب أن هذا السحر لا يقتصر على الأعلام الكبار، بل يمتد إلى ذلك الشيخ المجهول في قرية نائية، الذي يخطف ألباب المصلين في صلاة الفجر بتلاوةٍ كأنها ندى الصباح. حتى الأطفال هنا يتعلمون القرآن قبل إتقان المشي، فترى الصغير يقلد انفعالات الشيخ المنشاوي ببراءة، وكأنه يلعب بلغة السماء.
ربما السر يكمن في أن المصريين يعيشون القرآن كـ "حكاية" تروى، لا كنصٍّ يُتلى. حين يقرأون "ألم نشرح لك صدرك"، تسمع في صوتهم حنو الأم التي تمسح على جبين طفلها، وحين يتلون "فاصبر لحكم ربك"، تشعر بصلابة الجبال في نبراتهم. هم لا يَجودون القرآن، بل يَخلقونه من جديد كل مرة، وكأنهم يترجمون لغة السماء بلهجة الأرض.
ستظل مصر تنثر سحراً خاصاً يلامس الأعماق، كأن النيل نفسه يترنم بآيات القرآن، أو كأن أرواح الأجداد الفراعنة أورثتهم سر الجمال في النطق. هنا، حيث يتشابك التاريخ مع الروحانيات، يتربع قراء مصر على عرش التلاوة بجدارة، ليس لأنهم الأكثر عدداً، بل لأنهم الأقدر على تحويل الكلمات إلى نبض حي، يجعل السامع يعيش في فضاء الآية قبل أن يسمعها.
فيا ليت القلب يسع كل تلك الأصوات، ويا ليت الزمن يتسع لأسرارهم. لكن يكفي أن نعرف أن مصر، كلما أرادت أن تذكر العالم بجذرها الروحي، أرسلت له صوت قارئٍ جديد، ليذكره بأن القرآن لم ينزل على الأوراق فقط، بل نزل ليكون دماءً في العروق، ونغماً لا ينقطع.
كم تمنيت لو أن العمر يمتد بي لأجلس في زاوية من زوايا الأزهر، أتلقى الإجازة من أحد هؤلاء الحكماء الذين جعلوا من الحروف أجنحةً، ومن الآيات عوالم. لكني أدرك أن الإجازة الحقيقية ليست في الشهادة، بل في تلك الرحلة التي يصنعها الصوت المصري بين الأذن والقلب، رحلةٌ تبدأ بالسمع وتنتهي بالإحساس بأنك سمعت القرآن للمرة الأولى.
***
د. عبد السلام فاروق