أقلام حرة
ثامر الحاج امين: الشاعر يعقوب جواد.. رحيل قبل الأوان
في الخامس عشر من شهر كانون الثاني الجاري مرت الذكرى الثالثة والعشرون على رحيل القمر الدغاري الشاعر "يعقوب جواد 1957 ــ 2002" الذي عاش حياة ملؤها الألم حيث فقد شريكة حياته قبل ان تمضي سنة واحدة على اقترانه بها والتي تركت أثرا مأساويا في قلب الشاعر، بعدها بفترة قصيرة اصيب بالمرض الخبيث وظل يصارع المرض بأراده قوية للأسف لم تفلح في هزيمة المرض اذا ودع الحياة وهو في قمة نضجه وعطائه، ونلمس في رثاثه لحبيبته وشريكة حياته " أمل " ان الشاعر ومنذ تلك الفاجعة تنبأ ببداية رحلته مع العذابات فيقول لها:
أنا للحزن بعدك والدموع
شرابي، والدموع دمٌ نجيعُ
يقولون التصيّر عنك أجدى
ولكني أنا لا استطيع
هبيني منك للسلوان قلبا
جليدا لا تضيق به الضلوع
حتى يصل به الحال من اليأس وتراجع الأمل بفسحة من الهدوء والسكينة انه يصف عمره بعد فقدانها صار عبارة عن جسد محطم ينوء بألم الفقدان والوحدة والمرض لاحقا:
انا والله بعدك عبء عمر
ينوء بحمله جسدٌ وجيع ُ
ينام معي الذهول ويحتويني
وتدهمني الفجاءة والخشوع
قبل سنوات وتزامنا مع ذكراه بادرت عائلة الشاعر الى اصدار ديوانه الثاني (خريف السومري الأخير) بعد ان صدر ديوانه الأول (للخريف التاسع والعشرين) عن دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد عام 2002 ولم تتكحل عيون الشاعر بكلا الديوانين، فالأول صدر عقب رحيله بفترة قصيرة وبسعي مخلص من اصدقائه المقربين والثاني صدر بعد عشرين عام وعلى نفقة عائلته، وفي كلا الديوانين اللذين ضما قصائد من الشعر العمودي والتفعيلة تقرأ الشاعر يعقوب جواد يعيش هاجس الموت والشعور بالرحيل المبكر كما عاشه السياب من قبله، فقد عاش معاناة الفقدان والمرض مبكرا مما افقداه لذة العيش وصلت الى الرغبة في الخلاص من عذابات المرض ومحنته ولو كلفه ذلك اغلى الاثمان فهو يبوح لصديقته بهذا العذاب:
يا سيدتي
إني يأكلني صدأ السنوات الصفر
ويحز بقلبي سكين
أقسم يا نسرين
لو كان العمر رجلا لقتلته
بهذا الاحساس المشبع بالألم ظل الشاعر يعقوب جواد يتقلب على جمر عذابه محاولا تجاوز محنته بالصبر وقوة الارادة فلا تسمع منه شكوى او جزع، الا انك تقرأ في اشعاره وصفا لشبح الموت الذي كان يلوّح له حيث يدرك ويقر بعد مكابرة يائسة انه لا مفر من الفاجعة وان الموت قريب:
لا عزاء !!
تفر الليالي ..
وتضيع السنين
انه عمر كالشراع
خافق بالرحيل الحزين
قبل ابتلائه بالفواجع المتلاحقة تقرأ اشعار جواد في الغزل فلا تكاد تصدق ان هذا الشاعر المزهو بالحب والممتلئ نشوة وخيلاء يتحول الى جسد محطم و(مقفر كالموائد، واجم كالمقاهي الحزينة) كان يخاطب اللذين يلومونه على اندفاعه صوب مملكة الحب:
ليت من أكثروا بحبك لوماً
جرّبوا بعض ناره ثم لاموا
لو يلاقون ما ألاقي لتابوا
ولصّلوا من أجلنا ولصاموا
والذي يقرأ سيرة الشاعر "يعقوب جواد " الانسانية والشعرية يجد ثمة مشتركات جمعت بينه وبين الشاعر "بدر شاكر السياب " فالاثنان شاعران عراقيان بدأ كلاهما بكتابة الشعر العمودي وانتهيا بشعر التفعيلة، كما ان الشاعرين عانيا من ألم الفقد المبكر لأحبة لهما وتسرب هذا الألم الى مساحة ليست بالقليلة من منجزهما الشعري، فالسياب فقد أمه وهو صغير وبث ألم رحيلها في عدد كبير من قصائده وكذلك الشاعر جواد فُجع بالغياب المبكر لزوجته " ام منور "، والشاعرين ايضا وفي مرحلة مبكرة من حياتهما قد ابتليا بالمرض العضال وكانا في أوج نشاطهما وعطائهما مما افقدهما صفاء الحياة ولذة العيش حيث خيّم شبح الموت والشعور المبكر بالرحيل على جانب كبير من منجزهما الشعري، يضاف الى ان ثنائية (الوطن والحب) كانت واضحة ومهيمنة علي بدايات جواد الشعرية فقد تربى الشاعر على قيم الوطنية واليسار وتغنى في العديد من قصائده بالوطن وحتمية انتصار قوى الخير فيه:
ياذا العراقي ان الشر منهزمٌ
وانتَ عزمٌ وتصميمٌ واصرارُ
أين اتجهت ف للإبداع متجهٌ
وكيف قلتَ فأعجاز وابهارُ
تمضي الحضارات والمجد اليشاد هنا
يبقى ومأمونةٌ تبقى هي الدار
ان تجربة القمر الدغاري الشاعر " يعقوب جواد " تظل واحدة من المحطات المضيئة في ساحتنا الشعرية وتبقى اخلاقه وجمال روحه ماثلة امامنا ونموذجا للإنسان المبدع والرائع ..
***
ثامر الحاج امين