أقلام حرة

علي الجنابي: قَدَاسَةُ التَّعدَاد

(لمناسبة التعداد - السكاني في بلدي العراق)

أتعلمُ يا إياد، يا ابنَ أخي الحاجَّ حَمَّاد...

أنَّهُ لمِنَ بئيسِ التخلفِ المزري وتعيسِ التصلُّفِ المخزي في أيةِ بلاد، أن تُجرى للعباد عمليةُ تعداد، وفقَ أسس طائفية ولا غير الطائفية لها مراد، كي تُكتشَفَ نسبة (الأغلبية) بين الأفراد، ثم ينطلقَ صاحبُ العَدّاد لهذا التَّعداد، من تهي نسبة ليَحكمَ مطلقاً هذي البلاد. وإنما هكذا أمر لم يأتِ به امرؤٌ ذو فكرٍ حميدٍ أو فردٌ ذو رشاد، لا في أذكارِ الديارِ في أرجائها، ولا في أفكارِ واختيارِ هذي البلاد، إلا محتل بريطاني ماكر بخبثٍ لغاياتٍ بارتداد. رَدَّ عليَّ إيادُ على استحياءٍ ولكن بإعتداد:

- لمَ تظنُّ سوءً بذا تَعداد يا عمّ يا أبا زياد، أوما علمتَ أن مهمةَ (الجهاز المركزي للإحصاء) هي: "توفير مؤشرات إحصائية شاملة عن المتغيرات السكانية والاجتماعية والاقتصادية على مستوى أصغر الوحدات الإدارية في الحضر والريف"، وقد أنجز الجهازُ المهمة بتفانٍ وهَّاجٍ وها هو قد أنهى دقَّ الأوتاد؟

- كلّا يا ابنَ عناد ، ومَن كان يظن أن راياتِ هذا التعداد كانت لغاياتٍ تنموية وعلمية بحتة بإرصاد، فقد ضل عن سواء السبيل إمَا عن جهلٍ سَمِجٍّ أو مجٍّ مِن عناد. أولستَ بمُصدقيَّ يا إياد؟

إذاً، فانظرْ الى حكومات البلاد، وكيف هي عاجزة منذ عقدين عن تأمين ماءٍ صالحٍ للشرب للعباد باجتهاد، بل وتراها سعيدةً بعزف نشيدها الوطني في الدروب كلَّ ضُحىً بانشاد: (مي آرو مي آرو، الدبة بخمسمية)، والآرو صحة للأرواح والأجساد. وإذاً، فمن المحالِ على تهي حكومةٍ أن تفكرَ ولو لطرفةِ عينٍ بلا ارتداد، في أبْعَادِ تَعداد محترم رصين، ومعتبر رزين يعود على العباد بالزهو والتقدمِ وعلى البلاد بالأمجاد. ثم أولم ترَ يا إياد...

إلى أهلنا في شطرِ جنوب البلاد، فرُغمَ أنهم ذوو مذهبٍ ديني واحد وليس بينهم من مذاهبَ أنداد، ورغم أن شطرَهم لم يدخله قطُّ الإرهاب والأوغاد، ورغم أن زمام حكومات البلاد، هي بيد أولاد ذات المذهب كونهم (أغلبية) بانعقاد، كما زعمَ (شنشولُ)الحداد، فإننا رأينا الشطرَ يعيش طوال العقدين في بئيس فقرٍ وتعيسِ بقرٍ وقتلٍ واضطهاد. ولا حاجة لنا ههنا يا ابنَ عناد، بسرد شواهد ودلائل على صحةِ قولنا لإقناع ذوي الغفلة من العباد.

ثمَّ الى أهلنا في شطر غرب البلاد، ورُغمَ أنهم ذوو مذهبٍ ديني واحد وليس فيهم من مذاهبَ أضداد، ورغم أن شطرهم قد مزقه الإرهاب والأوغاد، ورغم أن زمام حكم البلاد، هو ليس بيد أولاد ذات المذهب كونهم (أقلية) بانقياد، وكما زعمَ (شنشولُ ابنُ أبي سَلسُول) الحداد، فإننا رأينا الشطر ينهضُ من تحت سُخامِ الرماد، وينفضُ عن وجههِ السواد، ليُعمّرَ -خلال عام واحد فقط- ما دمّره الإرهاب الأوغاد، وها هو اليومَ يزهو بأحلى حلة وأعلى طَلة، وماضٍ في الزهو بازدياد. وبُعداً لبياناتِ (جهاز مركزي لإحصاء) وتعداد. وتَعِسَتْ مزاعمُ (أبي سَلسُولَ: شنشولُ) الحداد. ثمَّ هل تدري يا إياد، إنَّ الموظف العدَّاد في التعداد، لم يطرق باب داري حتى هذه اللحظة، إي ورب العباد!

- لعلَّ الموظفَ مريضٌ يا عمّاهُ أبا زياد، أو لعلّهُ عاشقٌ وتسلل لواذاً لحبيبته (بسعاد)، أو لعلَّهُ (مِكنِّكاً على طَراوةِ النت) ومنتَعشاً وساهيَ الفؤاد؟ ثم إنَّ كثيرا من العوائل مثلك لم يطرقْ بابها الغداد، سواءُ العاكفُ في دارهِ منها، أو مَن كانَ عابرَ سبيلٍ أو باد!

- لا ضيرَ يا إياد ، فنحنُ بتنا نُحبُّ لحنَ (الأقلية) باسهاد، كيلا يغضبَ منَّا (شنشولُ ابنُ أبي سَلسُول) الحداد. ويا لجمالهِ من لحنٍ نديٍّ هادئٍ هادئٌ، فلا ضوضاء فيه ولا بغضاء ولا تضاد. وإذاً فلا حاجة لنا بالموظف العَادِّ في التعداد إلّا كرم الضيافة التي كنّا قد أعددناها له تفخيماً لهُ وتعظيماً لحرمةِ و(قدسية التعداد).

ثمَّ نظرَ إليَّ إياد، ثم وقفَ كي يُلقيَ عليَّ نصَّ تصريحاتِ الحاجِّ حَمَّاد. وحمادُ هو صاحبُ مقهى (الحكمُ لنا) ولنا وحدنا الجندُ والجياد، فقال إيادُ وبحرفٍ ودودٍ وذرفٍ ممدودٍ على الجُرحِ كأنَّهُ الضَّماد:

[ يقول عمُّنا الحاجُ حمَّاد، صاحبُ قهوةِ (الحكمُ لنا) ولنا وحدنا الخيلُ والأجناد:

ويكأني بلسان حال (الأقلية) يقول (للأغلبية) بأسفٍ غيرِ مُعتاد: نحن قد رضينا بقسمة (الأقلية) بإنشراحٍ وارتياحٍ وبإسعاد، ولسوف ننطلقُ بلا تعداد، الى جمال الحياة وأنوارها، وكمال الفلاة وأسوارها، والى زهوها وقلمها والمداد. ولقد تركناها لكم منذ عقدين حكوماتِ (الأغلبية) دونَ الحاجةِ لموظفِ عدَّاد، ولسوف تُحلِّقونَ في مكيال الحكومات وأطوارها، والتظاهرات وأغوارها، ولكم لغوها وألمها والتعداد. فهنيئاً لنا بحياةِ (أقليةٍ) تحطبُ وتعملُ، وتحفلُ بسواعد إتقانٍ باعتماد، وهنيئاً لكم ومريئاً بحكومات (أغلبية) تخطبُ وتكذبُ، وتغفلُ عن وعودها التي أبداً أبداً أبداً لن يهبط بها المنطاد ].

- أجل إياد، وصدقَ الحاج حمّاد، ونحنُ لن نسقطَ في قيعانِ الطوائف فنكون منَ الأوغاد، وإياكَ أن تلتفتَ لما ينادي به كلُّ مناد، في ذا دهرٍ متخلفٍ باضطراد: (أنا سني وانت شيعي)، وأنا من الأغلبية وأنت من الأقلية ياعوّاد يا ابنَ أمِّ عوّاد.

(الوثيقة: تُبين تعداد سكاني للعراق بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، أشرف عليه البريطانيون، وتم نشره رسميا في شهر شباط عام 1920. مصدر الوثيقة: دائرة الكتب والوثائق العراقية).

***

علي الجنابي

في المثقف اليوم