أقلام حرة

محمد سعد: "الإذلال التطوعي"

بعد ثورة /يوليو 1952//حدث إنقلاب في النظام الاجتماعي في مصر، وبدأ يتخلص من العبودية القهرية، في قريتنا كان ناظر الخاصة الملكية هو {الحاكم بأمر الله في القرية} يأمر بترد هذا المزارع من الأرض، واعطاء أرض لهذا، ويأمر شيخ الخفراء بِجِلدِ هذَا بِالكربُوجِ السوداني، وكان ناظر الخاصة الملكية له نفوذ وحاشية اختاروا التقرب له ليكونوا تحت مظلتة، انتهي هذا العصر مع قيام ثورة يوليو، وبعد الثورة ظلت حفنة تبحث عن مظلة من اصحاب السلطة والجاه والنفوذ والسلطة، تتقرب للنظام الجديد وللنظم المتعاقبة، تحت مظلتهم كحماية لهم، رغم معاملتهم مثل العبيد او كما يطلق عليهم علماء الاجتماع (العبيد التطوعي) وحدث طفرة اقتصادية بعد حرب اكتوبر من الهجرة وانتعشت عائلات اقْتِصَادِيًّا كانت تعيش تحت خط الفقر، ولكن شعروا بعقدة النقص والدونية فبحثوا عن شخصية اعتبارية من رجال السلطة، ليكونوا لهم عبيد"توابع " ولا يخجلون أنهم توابع لفلان،، ويظهر طائفه منهم فترة الانتخابات، ولكن بصورة مودرن حديث، يحملون لهم الهدايا والتقرب لهم، ويعملون لهم خدم، ويكونوا سعداء لآن الباشا، لعنهم بأقذر الشتائم، ويسبحون اطراف النهار وآنا الليل، بالباشا وبطولاته الوهميه، عندما تم توجية سؤال لمحررة العبيد في امريكا "هاريت تويمان " ماهو اصعب شيء في تحرير 700 //من العبيد قالت إقناع العبيد أنهم عبيد، العبارة نفسها بتعبير اخر قالها الفيلسوف الفرنسي// جيل دولوز:

" القناع موت آخر بطيء".

أصعب معركة يمكن أن يخوضها إنسان عندما يحاول إعادة شخص ما، الى صورته الحقيقية التي نساها، ووجهه الضائع، وصار القناع وجهًا ستكون الخاسر الوحيد أنت لآن الآخر ليس عنده ما يخسره بعد ان خسر حياة كاملة.،، وقبل الإذلال والمهانة ستجد نفسك أمام دفاع مستميت ومع الوقت تكتشف أنك تدافع عن إيمانك العميق في أن هذا الوجه ليس قنَاعًا،  بل حالة انكار،  خاصة اذا قطع هذا الوجه شوْطًا طَوِيلًا فِي الإِذْلَالِ والآقنعة وتحول الى كائن وهمي لا وجود له حتى في نظر نفسه لذلك يخلق شخصية ولغة لكل شخص ولكل موقف:

كيف يمكن اعادة كائن هارب من نفسه الى نفسه..؟

"إن الإنسان

"المُذِلِّ " يَحسُدُكَ عليَّ وضعكَ وحُريتُكَ، لذلك لا يستطيع قطع الطريق، عَائِدًا، إِلى مَا قبْلَ الإِذلَالِ هُناكَ،  اشياء كثيرة تحطمت في طريق الإذلال وتحولت الى قواعد حياة وعادة وروتين بل الى مبادئ ومن الصعب العودة الى ما قبل.لكي يقطع مسافة العودة قبل الإذلال عليه أن يحطم في طريقه كثِيرًا من الأحلام والصور والقناعات والآمال والآوهام الزائفة ومن ذاته المصنّعة،

والقناعات الوهمية أخطر من الشر بل مصدر للشر لأنه لا يصدر من قناعات صافية وحقيقية وعميقة لذلك الشر سطحي وغبي أَيْضًا، يقول الكاتب (اورويل) عنهم، إن

الذين يقطعون طريق العودة، مستنزفين بلا أهداف، يحتاجون الى وقت وطاقة أكبر بكثير من نقطة البداية وهذا ليس مُتَاحًا دَائِمًا وفي حالات يتحول الذُّلْ الى نمط حياة في مناخ متقبل، في هذه الرحلة العمرية من حياتي في الحياة، قابلتُ الكَثير من الأقنعة والقليل مِن الوجوه الكُلحَةُ التي سَئِمْنَا مِنهَا وخجلْنَا مِنْ تصرُّفاتِهِمْ من ضياع الحياء لديهم من حياة الذُّلِّ التطوُّعِيِّ" للباشوات الجُدُدُ، كان العرب القدماء ينصحون بـعدم مُؤانسةُ" الذلِيلُ" لَا تُمازِحُهُ وَلَا تُؤانِسُهُ لِأَنهُ مُبرمَج عَلَى الإِذلَالِ وَلَا يَحتَرِمُ مَنْ يَحترِمُهُ بَلْ يَنتقمُ مِنْهُ للتعويض عن النقص في الشخصية عَارٌ مُعتَقٌ لكِنهُ يَحترِمُ احتِرَامًاً مبنِيًّا علَى الخَوفِ كُلُّ مَنْ يَحتقِرُهُ.

الذَّلِيلِ لَا يتسامح ولا يحب ولا يحترم الآصحاء لآنه يكره نفسه ويحتقرها ولآنه يريد ان يعيش دونيته بسرية تامة بلا وجه نقيض نقي يذكره بعاره المقنّع بل يقترب من النموذج نفسه المقنّع لتبادل شبيه الرخيص والمنافق.الحوار بينهم حوار أقنعة لآن القناع يخلق هوية مشتركة كما تحدث بين اللصوص ومخلوقات القاع الاسفل والقراصنة والنصابين وباعة الجسد والخ.

تاريخ القناع يعود الى زمن الوثنيات والاساطير ثم الاحتفالات الطقسية وانتقل الى المسرح ثم صار بديلاً في عالم اليوم عن الوجه:

" خجلتُ من نَفسي عِندما أدركتُ، أنّ الحياة حفلةٌ تنكرية، وأنا حضرتُها بوجهي الحقيقي في مسقط رأسي والبيئه التي أعيش داخلها "  لكن ليس كل انسان تعرض للإذلال والمهانة عَاجِزًا عن الخروج من المتاهة، لو كان هناك وعي المتاهة، واذا لم تتحول المتاهة النفسية الى اجترار وقواعد بل والى قيم ونمط حياة، لأن بعض الاشخاص في أسوأ وأحلك الظروف تبقى فيهم مصدات وقائية ومبادئ صلبة تقاوم الانحلال والمضي في الطريق، وفي اشتباك داخلي صامت بين المحيط وبين الذات الملغية وبين القناع، وفي هذا الصراع إما أن يمرض أو يُجن لكنه لا ينحط لأن قيمه وأخلاقه الطبيعية وتربيته تقف حاجزًا وقائِيًّا ضدَّ الضحالَةِ الأخلاقية والأقنعة رغم الإنهاك النفسي والتعب والوحدة الروحية، هم لايشعُرُون أَنَّ أبنائهُمْ سَوفَ يَرِثُوا عَارَ الإِذلَالِ أَنَّ أبائهُمْ كَانُوا عَبِيدَ تطوُّعِي، وأنةُ وُلِدَ مِنْ رَحِمِ تَجرِبةِ الوجعِ المُطهرَةِ مِنْ جَدِيدٍ والتاريخ أثبت إن هذا الصنف خلقوا حياتهم من جديد وخلقوا لنا أيضًا المثال على اننا يمكن العودة الى بداية الطريق بل والى طرق جديدة وان الحياة ليست نسخة واحدة.

***

محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث مصري

 

في المثقف اليوم