أقلام حرة
موسى فرج: "صنعه"، تمنيتها لكني حمدت الله أني لم أتقنها
فتى من أقاربي نقلت عنه لي طرفة قبل عدة سنوات تتعلق بوضعه في المدرسة فأحببت ان اسمعها منه بالذات..وفي أحد الأيام مرَّ سجاد لأمر ما الى بيتي وعندما تقابلت عيوننا تذكرت في الحال تلك الطرفه، فقلت لسجاد: سجاد.. أحكي لي ماذا سألتك معلمة الإسلامية وماذا كان جوابك.. ؟
قال: خالي آنا أداوم مسائي وعدنا امتحان اسلاميه شفهي، من وصلني السرا طلبت مني المعلمه قراءة سورة الكوثر، ما عرفت، قالت: اقرأ أي سورة من القرآن تحفظها.. ولكن كيف لي ذلك وانا لا أحفظ منه شيئاً.. ! فقلت لها: ست آنا زين بالفهم مو بالدرخ اسأليني سؤال فهم.. قالت: حسناً يا سجاد قل لي: ماذا كان يفعل الفرعون بالناس.. ؟ قلت لها: ست چان يكتل الفحلّه ويخلي النثايا.. !-"يقتل الذكور ويترك الأناث".
المعلمه صرخت بوجهي مهتاجةً: إي مو چان مطيرچي أبيت الخلفوك.. ! وطردتني وحطتلي صفر.. ! بس جوابي صحيح وعلى أثرها بطلت من المدرسه.. فأضحكني سجاد حتى اخضلت عيناي..
ولأنه يقال: "ثلثين الولد من خاله".. فأنا ايضاً أفتقر الى ملكة "الدرخ" ورغم تذوقي الشعر منذ نعومة أظفاري ومنذ نعومة أظفاري حاولت وباستمرار تنمية ملكة الحفظ عندي ولكن لم أفلح حتى أني عندما أحاول حفظ القصائد المطلوبة في المنهاج المدرسي لغرض الامتحان أخرج للحقول واتأكد من عدم وجود أناس يسمعوني واتحفى "أخلع نعالي" وأدس بعض من دشداشتي في سروالي واتوكل وعندما يضنيني حفظها كنت أستنبط ألحاناً لها من عندياتي وأغنيها بصوت عالٍ فذلك يساعدني على حفظها ومن اطول القصائد التي حفظتها بالاستعانة بطريقتي المبتكرة هذه هي قصيدة: مطر.. مطر للسياب فقد كان ايقاعها راقص أو لأني ابتكرت لها إيقاعاً راقصاً من عندياتي: " تتثائب السماء والغيوم ما تزال.. تسح ما تسح من دموعها الثقال، كأن طفلاً بات يهذي قبل أن ينام.. بأن أمه التي أفاق منذ عام، ولم يجدها فحين لج في السؤال.. قالوا له بعد غد تعود.. لابد أن تعود". أما بقية الأشعار فأتذوقها.. ؟ نعم، أتفاعل معها.. ؟ نعم، استوعب واحفظ الصورة.. ؟ نعم، ولكن أن أحفظ القصيدة بكاملها.. ؟ فذاك خارج طاقتي على "الدرخ"، فأنا أقول مثلاً:
الخيل والليل والبيداء تعرفني_ والسيف والرمح والقرطاس والقلمً.
أنام ملأ جفوني عن شواردها-ويختلف الخلق جراها ويختصم.
وأقول أيضا: نامي جياع الشعب نامي- حرستك آلهة الطعام.
نامي فإن لم تشبعي فمن عسل الوعود مداف في كلام.
وأقول: سقف بيتي حديد ركن بيتي حجر_ فأقصفي يا رعود واهطل يا مطر.
وأقول: لا تسقني كأس الحياة بذلة –بل فاسقني كأس العز ولو بالحنظل.
أي نعم.. بيت بيتين، لكن كامل القصيدة.. ؟ فذاك خارج نطاق امكانات ملكتي على الحفظ، وطبعاً البيت الذي أحفظه أعرف الشاعر وأخصه وأكَصَّه فالأمثلة في أعلاه للمتنبي والجواهري والفيتوري وعنتره.
هذا عن الشعر أما عن حفظ القرآن فأنا أيضاً على منهج ابن أختي سجاد في هذا الميدان ايضا، فأنا رجل فهم مو رجل درخ، أفهم الآية وأتدبرها ولكن قضية أن احفظ: "لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين"، الأولى قبل الثانيه أم الثانية قبل الأولى.. ؟ فذاك خارج حدود ملكتي على الدرخ.. ولذلك الجأ الى قول: "ما معناه".
في سن البلوغ لا أتذكر كم كان عمري يبلغ بالسنوات ولكن المؤكد أني بالغ والدليل وجود شعيرات في ابطي وهذه من علامات بلوغ الذكر عند المذهب الجعفري.. وقعت في حب صبية من الجيران لا استطيع تحديد عمرها بالضبط ولكن المؤكد انها في سن البلوغ أيضاً، فقد كانت رمانتي صدرها بائنة نوعما وهذه من علامات البلوغ عند الأنثى في المذهب الجعفري أيضاً، وكنت أريد التغزل بها شعراً فحاولت وحاولت وحاولت لكني عجزت.
وكم كان عميقاً وغائراً ذلك الأثر الذي تسبب فيه إخفاقي بنظم الشعر في نفسي منذ مرحلة بلوغي المبكرة حتى اليوم..
لكن اليوم واليوم بالذات وبعد إن شارفت تصفيات تنقيح الشعراء من منهم الذي تورط في مدح صدام فاستحق الازدراء ومن منهم الذي لم يفعل فرفع شارة النصر محتفلاً، وجدت أن الشعراء في مدحهم لصدام أصناف:
منهم الثيب: وهؤلاء مؤدلجون مؤمنون بما يقولون وإن طغى القول وبلغ مديات منفرة فلا تثريب عليهم، مثل شفيق الكمالي القائل:
تبارك وجهك القدسي فينا كوجه الله.
وقوله:
لولاكَ ما كان العراقيون معدودين في جنس البشر.
وعبد الرزاق عبد الواحد القائل:
"فيا أيها الوتر في الخالدين.. فرداً إلى اليوم لم يشفع".
وغير هؤلاء من شعراء أم المعارك وشعراء الرئيس وشعراء علي كيمياوي وعبد حمود.
ومنهم الأبكار مثل الشاعر محمود البريكان الذي التزم الصمت،حتى ان عبد الرزاق عبد الواحد يقول عنه: "عجزنا، نحن اصدقاؤه، وعجزت وزارة الثقافة والاعلام عن ان تحصل من محمود على مجموعة شعرية له وتنشرها، رغم ما قدمت له من مغريات!".
ومنهم المتزنون: الذين مدحوا اشخاص وحكام لكنهم لم يتورطوا بمدح صدام وعدي مثل الجواهري الذي مرَّ بعمان في طريق عودته من القاهرة مارّا بدمشق فأُستقبل بحفاوة في عمان فألقى في عام 1992 أمام الملك حسين قصيدته:
يا سيدي اسعف فمي ليقولا
في عيد مولدك الجميل جميلا
*
يا أيها الملك الأجل مكانة
بين الملوك، ويا أعز قبيـلا
*
يا ابن الذين تنزلت ببيوتهم
سور الكتاب، ورتلت ترتيلا
فكان وقعها إن ترك الملك مكانه وخلافا للتقاليد صعد إلى المنصة لتقبيل الجواهري، وليس مثل ذلك الوضع البائس الذي يتفاخر به عبد الرزاق عبد الواحد من أن صدام أشعل له سيكارته من علبة ثقابه..
في حين أن الجواهري حاول معه صدام وابنه عدي ليحصلا منه على مديح لهما رغم أن الجواهري سبق ان مدح اشخاص حكام أو أن لهم صلة بالحكم مثل باسل ابن حافظ أسد ومحمد ابن احمد حسن البكر وقبلهم جميعاً عبد الكريم قاسم الذي قال فيه:
عبد الكريم وفي العراق خصاصة - ليدِ، وقد كنتَ الكريمَ المحسِنا.
لكن الجواهري كان عصيا على صدام رغم الضغوط والإغراءات حتى فجرها بوجهه يوما:
لولاك يا ابن الخيس ما حل الخراب بأرضنا..
لولاك ما ذبحوا الولود من الوريد بارضنا..
لولاك ما عبث الطغاة بأرضنا وبعرضنا..
أنا.. من أنا.. سل دجلة سل نخيل بلادنا..
يا غادراً إن رمت يسألني أجيبك من أنا..
ومنهم مدعوا البكاره: هؤلاء أنكروا إن كانت عذريتهم قد خدشت بسوء ولكن من جراء التراشق الذي تواصل عنيفاً تارة وصاخباً أخرى على مدى شهر بتمامه وبعد إن فتحت الدواوين ومالوا على الصحف فنشرت، منها المزورة ومنها الحقيقية ظهر منهم من وصف صداماً بسليل الهواشم تارة، وآخر وصفه بـ: سيد النهرين تارة أخرى.. وغيرهم كثيرون ممن تمنوا في الراهن أن تكون لهم رقبة بعير فيستغرق القول مسافة أكبر في رحلته الى العلن..
عند هذه اللحظة بالذات حمدت الله واثنيت عليه لأنه عصمني من صنعة نظم الشعر فتنازعني على عذريتي، ومن ملكة "الدرخ" فأهجر بما لا أعي، ومكنني من قول ماذا كان يفعل الفرعون بالناس، "فهماً" وحسب بمخارج حروف واضحة ومتيقنة، فإن لم يعجب ذاك معلمتي فلتشرب من بحيرة ساوه..
***
د. موسى فرج