أقلام حرة

صالح الطائي: ليالٍ أشمُ في رائحتِها الوجع

بعد فراق سنين طوال، جمعت عشري على رأسي وحملت حقيبة خالية إلا من كومة فشل مرير، وتوجهت إلى حيث أحلم أن أجد الفرح، هناك في أوروك.

في الطريق إلى أوروك، بلاد الخير والحضارة، البلاد التي أبدلت جلدها وارتدت السواد حتى قبل أن يغزوها هولاكو، كنت أحلم بحقول خضراء وخير ونماء وجميلات النساء وموسيقى وغناء.

سألني الشحاذ الأعور: أين تريد؟

قلت: هناك إلى أوروك أرض الأجداد وأجمل البلاد

فتأسف وتأوه وتململ، وقال: هناك حيث الظلمة ورائحة البارود وثغاء طفلٍ يتيمٍ تقطعَ أوصالا بفعل العصف الغادر لتفجير يعتقد منفذه أنه يفتح له أبواب الجنان وطائرات الإخوة الأعداء من جيش التحرير القادم من أرض الألغام، أرض العم سام تقصف البشر في المساكن والمدارس والجوامع والحقول، والصحارى والسهول، وتقتل الهواء، وتنشر الهراء والبلاء، فإلى أين تريد؟ هناك لا جمال لا طعام ولا ثريد.

حينها صحوت من حلم لم يكن أخضرا، كنت من خلاله أحث الخطى، ابحث عن أوتونوبشتم بين أدغال الوهم؛ عله يدلني على نبع الحياة أو يلبسني جلد أفعى، وشبكت عشري على رأسي وسرت.!

كنتُ وحيداً والريح كانت تعوي كأنها ذئاب جائعة أو عرس بدوي تعصف به الرمال

وحزني كان يتعملق في سماء رغبتي، يجبرني على البكاء بعد أن نسيت الصهيل وأدمنت الهزائم.

طال السفر، وقل الزاد، وجفت العيون، ويبس الزرع ومات الناصر، وهناك على أطراف الأرض اليباب، زحف الليلُ ليقتل الخضرة ويخطف الأرواح ويجفف المياه.

كنتُ أسير وقد أنهكني الوجع، وحينما وصلت إلى أبواب المدينة الخربة لم أفرح لرؤيتها فقد أورثتني من قبل حزنا ووجعا.

حينها لفتني البلادة وأفقدتني فرحتي؛ ربما لأني وجدت مكتوبا على أسوارها المهدمة وفوق بابها الهرم: مدينة عربية! وهذا أمر يحسم القضية

مدينة عربية، ماذا تتوقع أن تجد بها عدا رائحة الشواء وألسن اللهب وسواد الدخان؟ هناك لم أجد حراسا يقفون على بواباتها ولم أشم رائحة أنفاس بشرية، لم أر دنيا، فقط بغيٌ عمياء تقدم بها العمر وشاخت سنينها، كانت تجلس فوق كومة كبيرة من الرجولة العربية التي تخلى عنها أصحابها من الهلع وفروا إلى أحضان الغانيات،

سلمت عليها بصوت عال ممهدا لسؤال، لم تسمع لأنها كانت مشغولة بالبحث عن واحدة منها لم يصبها العطب بعد، فلم تجد سوى الخواء ورائحة الخيانة وقوافل الجُبن المعتق في الضمائر والنفوس.

فناديتها: لا تتعبي نفسك بالبحث، فالعرب فقدوا رجولتهم مذ ذبح العراق، العرب ماتوا مذ أن اغتصبت ليبيا، وأحرق وجه الشام، وهتك عرض اليمن، وشوه ربيع لبنان الجميل، وقصفت غزة بالنابالم، وأحرق الأطفال، ومات الشعب الأصيل، ومعه ماتت أصائل الخيول.. 

العرب ماتوا مذ أن رفرفت رايات أعدائهم على أسطح منازلهم باسم سلام وادي عربة والتطبيع.

العرب ماتوا وفقدوا مواريثهم وطباعهم، وصاروا يبحثون عن النصر المؤزر من خلال لعبة البوبجي لا من خلال السيف والرمح الرديني.

العرب تحولوا إلى قطيع قردة تقوده حمير مستنفرة أرعبها قسورة، وأفقدها هيبتها غضنفرة، واذلتها حشرة، فأصبحت لا تعدل بعرة..

العرب ماتوا يوم صارت نساؤهم قبلتهم وربهم دولارهم وحجهم إلى مواخير الرذيلة في لاس فيكاس.

العرب فقدوا أصولهم، وأضاعوا سننهم، وصاروا يخجلون من كلمة عربي، وأدمنوا الرذيلة، ومارسوا الغيلة، وطلقوا القِبلة والقبيلة، إلا عقال الرأس لا زال شامخا فوق رأس خاو إلا من أحلام الجنس والخمر والقمار، ربما لأنهم لا يريدون أن يُتعبوا الجلاد بالبحث عن سوط، فالعقال بديل نافع يهيج المواجع، وهو سهل المنال ويُقطِّع الأوصال، فيمسخ الرجال.

***

الدكتور صالح الطائي

في المثقف اليوم