أقلام حرة
يوسف أبو الفوز: هل ستتوقف الهجرة من العراق الى فنلندا؟
في هذه الأيام، لو وضعت أصبعك بشكل عشوائي، على أي مكان في خارطة العالم، ستجد هناك مهاجرون ولاجئون وصلوا اليه من العراق. لا توجد إحصائيات دقيقة عن عدد اللاجئين والمهاجرين من العراق، لكن منظمة الهجرة العالمية (IOM) تقدر العدد بأكثر من مليونين، ممن تركوا بلدهم في العقود الأخيرة، وبدأوا حياة جديدة بعيدا عن سمائهم الأولى في دول الجوار ومختلف البلدان الاوربية ومنها فنلندا.
ارتبطت الهجرة في العراق أساسا بطبيعة الانظمة الحاكمة وسياساتها المباشرة. إذ شهد العراق موجات هجرة كبيرة في ثمانينات القرن الماضي بسبب من الحرب العراقية الإيرانية 1980-1988، واستقر اغلب العراقيين في تلك الفترة في دول الجوار، مثل إيران وسوريا وتركيا والأردن وحتى بعض دول الخليج والسعودية، على آمل حصول تغيير ما في بلدهم والعودة أليه، لكن بعد فشل انتفاضة الشعب العراقي في اذار 1991 ، التي حاولت الحكومة الإسلامية في ايران التدخل في مجرياتها، فقمعت الانتفاضة بشكل دموي ووحشي من قبل نظام صدام حسين بتسهيلات من الادارة الامريكية، التي خافت من إمكانية قيام نظام موال لإيران، فتولدت أيامها قناعة عند العراقيين، من ان نظام صدام حسين سيعيش فترة أطول، فبدأت موجة هجرة من دول الجوار العراقي نحو البلدان الاوربية. وحصلت لاحقا موجات هجرة أخرى من بعد الغزو الأمريكي للعراق 2003، ومن ثم بعد ظهور تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) والحملات العسكرية لتحجيمها والقضاء عليها. في كل هذه الهجرات، كان هم وهدف العراقيين الأول والدائم هو البحث عن سقف آمن. ربما في فترة العقوبات الاقتصادية، التي فرضت على العراق، والتي استمرت من عام 1991 حتى الإطاحة بنظام حكم صدام حسين يمكن اعتبار الأسباب الاقتصادية أحد العوامل لهجرة العراقيين، لكن عموما، كانت الحروب، حروب صدام الداخلية والخارجية والسياسات البوليسية القمعية، هي في صدارة الأسباب التي تدفع بالعراقيين لترك بلدهم وتحمل المخاطر والمجازفات وصرف مدخراتهم لأجل الوصل لبلد آمن.
هذه الأيام، مع ازمة الحدود ما بين روسيا وفنلندا، ووصول اعداد متزايدة من اللاجئين الى نقاط العبور على حدود فنلندا الشرقية، اشارت الاخبار الرسمية الى وجود عدد ليس قليل من العراقيين ما بين راكبي الدراجات بغرض طلب اللجوء والحماية الدولية، ونشرت وسائل الاعلام الفنلندية لقاءات مع بعضهم، وان مرور سريع لأي متابع لوسائل التواصل الاجتماعي، لمواقع بعض من هذه الأسماء، سيجد ان احوالهم الاقتصادية في العراق كانت جيدة، بل وبعضهم يعيش حياة باذخة، إذن... لماذا يتركون كل هذا ويتحملون أخطار السفر ومجازفاته في البرد والثلج ويقصدون بلدا مثل فنلندا، بعيدا تحت سماء القطب؟
تبين دراسة لمنظمة الهجرة العالمية (IOM) نشرت في شهر آب الماضي، ان فنلندا وألمانيا هي أكثر البلدان الاوربية تفضيلا بالنسبة للمهاجرين العراقيين للاستقرار فيها، بسبب ما معروف عن البلدين من استقرار سياسي وطبيعة الأنظمة والقوانين فيها، وتشير نفس الدراسة الى ان أسباب الهجرة من العراق في الفترة الأخيرة تكمن في (عدم الاستقرار الاقتصادي والأمني والسياسي وغياب العدالة الاجتماعية في البلد). يشير الدستور العراقي الحالي، الذي اقر عام 2005 بعد سقوط نظام صدام حسين، بأن العراق الحالي جمهورية برلمانية ديمقراطية فيدرالية، وفيه نظام التعددية الحزبية، لكن الواقع المعاش ان الحكومات المتعاقبة، التي شكلتها قوى الإسلام السياسي، المدعومة بإشكال مختلفة، من قبل جمهورية ايران الإسلامية والولايات المتحدة الأمريكية، قامت على أساس نهج المحاصصة الطائفية والاثنية، مما ساعد على انتشار الفساد في كل مفاصل الدولة العراقية نهجا وممارسة، وأعتمد مبدأ تقاسم السلطة والثروة، فتعطل الدستور عمليا، وغاب مبدأ المواطنة والهوية الوطنية، وتم تفتيتها الى هويات دينية ومذهبية وقومية ومناطقية، مما عزز منظومة الفساد والفاسدين واستمرار ظاهرة سرقة المال العام وغياب سلطة القانون وبروز سلطة الاحزاب التي تملك اذرعا مسلحة (ميلشيات)، فارتفعت نسبة البطالة بين الشباب، مع الانتهاك المستمر من قبل قوى المليشيات للحريات العامة والشخصية، ترافقا مع غياب العدالة الاجتماعية، مما كان سببا في اندلاع احتجاجات واعتصامات كانت ذروتها في انتفاضة تشرين عام 2019 ، التي عمت العاصمة بغداد واغلب المدن العراقية، احتجاجا على تردي الأوضاع في البلاد. وجوبهت الانتفاضة الشعبية بعنف شديد من قبل قوات الامن العراقية ومليشيات الاحزاب، ونشط القناصة لاغتيال المحتجين وكانت النتيجة استشهاد حوالي 740 شخصاً، وفي حينه حدثت موجة الهجرة الى أوروبا، حيث وصل الالاف منهم الى فنلندا.
في كل الهجرات، التي حصلت من العراق، كان المهاجر العراقي يبحث عن سقفا آمن، يبحث عن استعادة كرامته المنتهكة من السلطات القمعية والمليشيات، لهذا نجد شباب نالوا التحصيل الأكاديمي العالي في العراق، أو ان أوضاعهم الاقتصادية جيدة، يتركون بلدهم بحثا عن حياة أفضل يستعيدون فيها انسانيتهم، بل ان بعضهم ولأجل ضمان قبوله كلاجئ يضطر لإدعاء تغيير دينه أو يدعي المثلية او حتى البحث عن علاقة زواج غير متكافئة، وهكذا ما دامت في العراق والشرق الأوسط تحكم أنظمة غير ديمقراطية، وتغيب العدالة الاجتماعية وتنتهك الحريات العامة والشخصية وتقمع حرية التعبير، فان الهجرة من العراق الى أوروبا وفنلندا لن تتوقف. وهذا يضعنا امام أسئلة أكبر، ويلقي على المؤسسات والحكومات الدولية مهمة معقدة ومتشعبة، قد يكون لها حديث آخر!
***
يوسف ابو الفوز
......................
* نص المقال، الذي نشره الموقع الاليكتروني لحزب اتحاد اليسار الفنلندي ليوم الاثنين 18 كانون الأول 2023 عن الهجرة من العراق عبر الحدود الروسية، ترجمه الى اللغة الفنلندية الدكتور ماركو يونتنين أستاذ كرسي دراسات الشرق الأوسط في جامعة هلسنكي. ونشرت طريق الشعب البغدادية استعراضا له في عدد يوم الاحد 14 كانون الثاني 2024 .