أقلام حرة
صادق السامرائي: عثرات سلوكنا!!
أن تتعثر في سلوكك يعني أنك تأتي بسلوك لا يتوافق ومصلحتك الذاتية والجمعية فتؤذي نفسك وغيرك، وأنت غير مدرك لما سينتج عنه سلوكك، لأنك تقوم به بأوتوماتيكية تحركها دوافع وعقد دفينة في أعماقك.
وقد تكون عثرات السلوك ناجمة عن أخطاء تربوية ينشأ عليها الفرد والمجتمع.
ولو تأملنا حالنا لرأينا أننا لا نعبر عن الديمقراطية في سلوكنا، لأننا نشأنا على غير ذلك عبر الأجيال، فنحن لا نعرفها ولا هي تعرفنا .
وكأنها لغة أجنبية نحاول أن نتعلمها، فنظامنا أبوي متسلط ومتوارث من البيت وحتى المدرسة، وكذلك المجتمع بأسره وعلى مختلف مستويات نشاطاته.
وإذا حصلنا عليها فأننا نعبث بها ونحقق إستبدادا وقمعا وتسلطا مرعبا.
والموضوع ليس عللا نفسية أو إضطرابات سلوكية، وإنما نشأة المجتمع وصناعته عبر الأجيال.
فالبيت ليس بيتا ديمقراطيا والمدرسة والمجتمع، والواحد منا لا يتبادل الآراء بل يفرض رأيه، ومَن يعارضه يحسبه ضده، فأي إختلاف في الرأي يعني العداوة، والمؤامرة والشك المريض، وهذا يجري في تفاعلاتنا اليومية العادية ومنذ أجيال.
ونحن نناقض أقوالنا بأفعالنا، ونحسب ذلك شطارة وذكاء، ونستعمل كلمة "أنا" أكثر من الشعوب الأخرى في كلامنا المكتوب والمنطوق وفي خطاباتنا السياسية وغيرها.
ولدينا جنوح إلى الغرائبية والفردية في القول والفعل، وهناك الكثير من الفنتازيا في تعبيراتنا، بل ونميل إلى التهويل بالقول والفعل.
ونغفل المعقول ولا ندرك الحدود، إذا أكرمنا أغدقنا، وإذا غضبنا أمعنا، فلا نعرف التوسط في سلوكنا اليومي.
ونبدو في تفاعل مشحون بالغضب، فلا ترانا نبتسم، وإنما القسمات المتوترة ترتسم على وجوهنا، لأن في عرفنا التربوي الضحك عيب وعلينا أن نتبع من يبكينا لا مَن يضحكنا.
وفينا ميل إلى الحزن الذي يكون واضحا في أغانينا وأشعارنا وما نبثه من أعماقنا، فالأغاني حزينة بالقياس إلى أغاني الدول المجاورة .
ولدينا رغبة للعنف خصوصا عندما يتعلق الأمر بالسياسة، فتأريخنا السياسي المعاصر وعلى مدى القرن العشرين دموي الملامح والطباع، وكأننا في تفاعل سلبي مرير مع كرسي الحكم ومَن في السلطة.
فنحن نملك الكراهية والرفض لمن يحكمنا، ويبدو أن مسيرة الحكم القاسية ولّدت في لا وعي الأجيال كراهية لمن يحكم بلدنا ويمتلك القوة فيه.
ومما عزز ذلك غياب التربية الوطنية ، فتربيتنا كرسوية وشخصانية، تمجد الكرسي والشخص الجالس عليه، وحزبية وفئوية وقبلية تشجع الأنانية وتدفع إلى إثارة الشكوك بالآخر.
وكل من جاء للحكم، وعلى مدى العقود الماضية، يمحق سابقه ليأتي بعده مَن يمحقه وهكذا دواليك.
فلم نعرف الأمن والإستقرار والسلام، ولا أن نقول ونرى بحرية، ووزارة التربية ما كانت تربي بقدر ما تحقق منهج الكراسي والشخصنة وفقا لتعليمات القوة التي تتحكم بالعباد.
وقادتنا لا يدرسون ولا يتفكرون ولا يمحصون ما يقولونه، بل أن كلا منهم يحسب نفسه خطيبا مفوها، فيقول ما يخطر على باله في وقت الكلام ليشيع الضغائن والخصام.
والكثير منا لا يعرف مهارات التعامل مع الناس، بل نحن نجهل كيفية التعامل مع بعضنا البعض، ولا توجد ضوابط وقواعد لضبط سلوكنا، فنتفاعل بالعنف والصراع والغلبة والبطش والقوة والشك أبونا وأمنا.
وديدننا أن ننغّص عيشنا فنمنع إتمام مراد مَن يريد ونجتهد في صناعة الأكدار لبعضنا.
وطفولتنا ليست لعبا ولهوا وحسب، وإنما هي تفاعلات سلبية وصراعات فيما بيننا ومعارك متواصلة، فقليلا ما نلعب من غير شجار وزعل وسب وشتم بأقبح الكلمات وأكثرها غرابة.
ويتعلم الطفل بيننا كلمات نابية ومؤذية أكثر من الكلمات الحميدة لأننا نستخدمها أكثر.
فنحن نسب أطفالنا ونشتمهم وهم يسبون ويشتمون غيرهم، ويتشاجرون معهم ويؤسسون لأنانيتهم الضيقة التي تصنع إستبدادهم فيما بعد.
وفي بيوتنا ترى الوالدين يتركان مهمة الأطفال للابن الأكبر، أو البنت الكبيرة، فيكون الطفل الأكبر قد تحول إلى مستبد ومستحوذ على كل شيئ، ويترك الآخرين في حالة صراع وتنافس وشجار دائم وإضطراب عارم بل ويتعلم كيف يتلذذ بإيلامهم.
فلم يجتهد الآباء بتعليم الأبناء ولم يحسبوا ذلك مسؤولية وواجب، فالأطفال يسعون في الأرض بلا دليل ويتعلمون من الشارع، فلا يتعاملون بالإيجاب بقدر ما يكون السلب سيد التفاعل، فينشأ التناحر ويتواصل العداء المبني على أسباب غريبة، وليست ذات قدر من الفهم، أي أن السلوك يرتقي إلى حالة العبث واللامبالاة بالنتائج.
وفي حياتنا يغيب القانون ولا يكاد يكون له وجود، فثقافتنا القانونية معدومة تماما بالقياس إلى المجتمعات الأخرى، لأن في أعماقنا رغبة بالسلوك ضد القانون ونحسب ذلك فخرا ومرجلة. ولهذا فأن الحديث عن القانون عندنا أشبه بالنكتة أحيانا، لأن كل واحد منا يريد أن يكون هو القانون ومن العيب أن يخضع للقانون، ففي لا وعينا نرفض القيد والقانون ونسلك وكأننا خارجين عن القانون، فلكل واحد منا قانونه الخاص الذي يريد أن يفرضه على الآخرين من حوله وليس على نفسه.
وقد تأسست في أرشيف أعماقنا آليات للتفاعل غير مرنة تسعى إلى التسلط والإستبداد، ففي أعماق كل منا طاغية مستبد.
فلا يمكننا أن نسلك بمرونة أو نقرر قرارا مفتوحا، ويكون ما نريده أمرا ورأينا مسك الختام وحكمنا الحكم المقام.
ونتعامل بسلبية وربما بعدوانية مع الناجح والمتميز منا، فنذيقه المرارة ونقصيه من بيننا فترى البارز والمتميز في عناء وألم وصراع مرير مع الآخرين، لأنهم لا يفخرون به .
وفي تأريخنا المعاصر، كل مَن تميّز ونبغ يكون مصيره الرحيل من المجتمع لأنه يقسو عليه إلى حد الموت، ولهذا فمعظم عقولنا المتميزة هاجرت وتفاعلت وتطورت في مجتمعات أخرى.
ومن العسير أن تجمعنا على هدف واحد وتوحد جهودنا نحو غاية واحدة وعلى جميع المستويات، إذ يصعب علينا أن نتعامل بروح جماعية وإيجابية، بل كل ما تعلمناه أن نتعامل بشدة وقوة وتفرد، ونحسب غيرها ضعفا أو جبنا وخديعة، وهكذا فعقيدة سلوكنا هي الغاب والقبلية أو الجاهلية، وبهذا فسلوكنا لم يكتسب صفة التهذيب الحضاري، وهو أكثر ميلا للعنف والقسوة.
فنحن نريد أن نوقع ببعضنا ونشك ببعضنا ونتحين الفرصة للطعن ببعضنا لا لشيئ ولكن لأننا قد نشأنا على ذلك، وهذا يظهر واضحا ومأساويا في تفاعلاتنا السياسية على مدى العقود وإلى اليوم.
فهل وجدتم بلدا مجاورا أكثر قسوة وعنفا ودموية في تفاعلاته السياسية منا.
وفي ذلك ومثله الكثير يضيع الوطن وينمحي من الذاكرة الجمعية وتطفو على سطح المأساة عناصرها ومولداتها، وما يساهم في تنمية تداعياتها ويحقق النسيان المرير لوطن الجميع ووعاء عزتهم وسعادتهم.
ولا يمكننا الجزم بالأسباب لأن البحث فيها لا يؤدي إلى جواب، ويأخذنا إلى متاهات وإضطرابات ورؤى وتصورات، وإستنتاجات متناقضة وغير مفيدة، ويجعلنا في حالة مراوحة سوداوية يائسة في ذات المكان الدامي الحزين.
ولكن من المعقول أن نواجه الحاضر وننظر إلى المستقبل ونتعلم من الآخرين، ونؤسس لتربية ديمقراطية وطنية في البيت والمدرسة، وننشر ثقافة التربية المعاصرة كما في الدول المتقدمة، وثقافة القانون وحب الوطن ومسؤولية الجميع في سلامته وأمنه والحفاظ على وجوده، لأن غياب الثقافة الوطنية والسعي إلى إلغاء الإحساس بالوجود الوطني يساهم في تأجيج المشاعر السلبية، ويصنع مجتمعا قاسيا في تفاعلاته وتداعياته.
كما أن التوجه السليم للخروج من العثرات السلوكية والتفاعلات السلبية ، يكون بالتركيز على ما هو إيجابي وحضاري معاصر من مهارات التفاعل الإجتماعي القائمة في المجتمعات البشرية المتقدمة، ويكون ذلك بالتثقيف وحرية الرأي والإختيار، لأنه يمنح البشر الشعور بالمسؤولية والدور فيهذب نفسه وسلوكه، ويقرر مصيره الذي يراه لصالحه وصالح مجتمعه، فيكون حريصا على وطنه وأبناء وطنه، ويسعى إلى مستقبله بعزم وتفاؤل وثقة وسلام.
والقصد مما تقدم هو مواجهة النفس وإطلاق ما فيها من قدرات إيجابية ذات دور مفيد لها ولغيرها لكي تتحقق السعادة الوطنية المنشودة.
ومَن شبَّ على شيئ (ما) شابَ عليه، في عصرنا الهمّام!!
***
د. صادق السامرائي