أقلام حرة
صبحة بغورة: فأر الشرق يتنمر
ليست من قبيل المصادفة الكونية أو المؤامرة الدولية أن تمر الإنسانية بلحظات شك عالمية في أسباب تراجع الجاذبية الفكرية والفاعلية الشعبية للمقولات الكبرى، كسيادة القانون وحقوق الإنسان والعدل الدولي والمساواة والمواطنة. فالشعوب لم يعد يهمها محاولات التجمّل بعد إنكار الانتهاكات الممنهجة لحقوقها في الحرية.
استغل العم سام، العالم الرائد في العلوم البيولوجية فرصة تقاعده للاهتمام أكثر في بمزرعته الكبيرة والعودة للعمل بنشاط في معمله المتطور الذي خصصه لتجاربه البيولوجية الخاصة جدا على النبات والحيوان، وكانت لديه حظيرة لمختلف الحيوانات والطيوريعيشون على ما تنبت الأرض وفق نظام غذائي محدد وضعه لهم العم سام في برنامج معين لا يقبل الخطأ، ويوم رأى أن نبتة جميلة لكن غريبة عليه ظهرت في أحد الجوانب البعيدة في أرضه، ولاحظ أنها آخذة في الانتشار الأفقي على سطح الأرض، وما زاد اندهاشه أن فأرا صغيرا كان يقبل على أكلها بشراهة، حتى كادت تنتهي، وهو لا يشبع منها، أضطر العم سام إلى جلب كمية من بذورهذه النبتة من منطقة بعيد تقع بين خطي طول 34 و35 درجة شرق خط غرينيتش، وبين خطي عرض 29 و3" درجة شمال خط الاستواء، تلك المنطقة هي منبتها الأصلي حيث اتضح للعم سام أن نوع التربة وطبيعة الطقس ملائمان لنموها، وان الموقع الجغرافي مزرعته لا يختلف كثيرا عنها.
بقي الفأر يقتات من هذه النبتة سعيدا دون أن ينازعه في طعامه أي حيوان آخر، ومن جهة العم سام وجد في الأمر ما يدعوه للتأمل بعدما لاحظ أن الفأر ينمو بسرعة غير عادية، وأن جسمه تضخم بشكل أقلقه، فحص العم سام النبتة بمعمله واكتشف أنها تحتوي على مغذيات ذات تراكيز عالية من المعادن والبروتينات والفيتامينات تعمل على استفزاز هرمون النمو HGHوتنشط عملية الانقسام الخلوي في الحيوان وحدوث انقسام خيطي متساوي سريع. ومع مرور الأيام بدأ العم سام يخاف الفأربعدما تغيرت طبيعته إلى العدائية والهجومية، لم يعد يخاف الحيوانات الأكبر منه جسما ولم يعد يهرب وينزوي في الأركان المظلمة أو يحفر لنفسه مخبأ تحت الأرض، لم يعد ذلك الحيوان المسكين المثير للشفقة كلما صادفه قط في طريقه، بل لقد صار هو من يتجول في المزرعة غير آبه بأحد، يبادر بالهجوم والعض وإفساد أكوام القمح وأكياس الدقيق والعبث بالبذور والتهام كل ما يجده من طعام حتى داخل المنزل.
فكّر العم سام في كيفية التخلص من الفأر المتضخم بعدما تغيرت صفاته الجسدية وتبدلت خصائصه السلوكية واهتدى إلى أن أفضل حل هو أن يأخذه إلى ذات المنطقة التي تنمو فيها النبتة المفضلة للفأر، سوف يسعد الفأر كثيرا بهذا الحل ولن يقاوم أو يعترض. يعلم العم سام أنه يأخذ كائنا محملا بالجهل والتطرف والكراهية إلى واجهة صراع مجتمعي، كانت لحظة عالمية مؤدية لهيمنة بدائل متهافتة بغوغائية حيوانية غير منضبطة في مجتمعات تختلف في كل شيء، فعاث الفأر المتضخم فسادا في الأرض وأحدث فيها إرهابا وتغييرا أخلاقيا عميقا ومعاناة كبيرة بعد الانجراف إلى الأفكار الخليطة المغلقة. اشتدت وحشية الفأر وتعاظمت جبروته لما غرّته قابلية من حوله للإنصات إلى مخاوفهم والاستسلام لرغبته في التهام المزيد من النبتة التي أدمنها، فخصصوا له أغلبية مواردهم لإرضائه واتقاء شره، ولكن ذلك لم يرضه لأنه في الحقيقة كان قد ضاق بوجود هم حوله يقضون أيامهم يراقبونه، احتمت به بعض الحيوانات الضعيفة ونفذّت كل ما أمرها به للهيمنة على المنطقة بتهجير من كان يقيم فيهاقسرا، ومن رفض التهجير أكله أكلا، وشرد صغاره.
قام العم سام يوما بزيارة للمنطقة شرق خط غرينيتش، أراد أن يتفقد أحوال الفأر فوجد الحال على غير الحال، فساد وإفساد، خراب وتخريب، حتى طعامه المفضل بدأ ينفد ويقل، والمطلوب البحث عن أماكن أخرى قد يتوفر فيها ما يشبعه ويرضي إدمانه، حاول العم سام تهذيب سلوك الفأر لجعله كائنا أكثر رحمة ولطفا ولكنه واجه غضبة الفأر وكاد أن يتعرض لعضاته القاتلة، حينها أدرك أن لا فائدة من مسعاه ولا جدوى من محاولته، واكتشف أن فأر الشرق قد تنمر.
***
صبحة بغورة