أقلام فكرية

حيدر عبد السادة: فلسفة الوجدان

يُعيد ماكس شيلر ترتيب خريطة الوعي الفلسفي حين يحرر مجال القيم من قبضة العقل، ويعيده إلى موطنه الأصيل: الوجدان. فالعقل — في تصوره — عاجز عن لمس الجوهر القيمي للأشياء، لأنه بطبيعته أداة تحليل، لا أداة كشف. أمّا الوجدان، فهو البصيرة التي ترى ما وراء الظاهر، إنه “العين الباطنة” التي تبصر القيم كما يُبصر البصر الألوان.

بهذا يطبق شيلر منهج هوسرل الظاهراتي، لا على المعرفة أو المنطق كما فعل أستاذه، بل على الحياة الانفعالية ذاتها، حيث الحدس الوجداني يصبح طريقاً إلى إدراك الماهيات القيمية، إدراكاً مباشراً سابقاً للتجربة، قبليًّا ولكنه ليس عقلياً، بل انفعالياً قبلياً، ينبثق من أعماق الكيان الإنساني لا من سطح الفكر. ولهذا يثور شيلر على الإرث الكانطي الذي جرد العاطفة من معناها، وعدّها امتداداً للنظام السيكو-فيزيائي للإنسان، ففي نظره، هذه الرؤية تجهل البنية القصدية للعاطفة؛ إذ إن الوجدان ليس اضطراباً عارضاً في النفس، بل فعل قصديّ متجه نحو قيمة، لانّ القيمة ليست وليدة العاطفة، بل هي سابقة عليها وجوداً ومنزلة، والعاطفة لا تخلق القيمة، وإنما تكشف عنها كما يكشف الضوء عن شكل الشيء، إن القيم موجودة على نحو مستقل عن وعينا بها، والعاطفة ما هي إلا الوسيلة التي تزيح الغطاء عنها.

ويميز شيلر بدقة بين القيمة والواجب، فالواجب المثالي يستند إلى القيمة، لا العكس، ومن هنا يرفض إقامة الأخلاق على أساس الواجب المعياري الذي يفتقر إلى الجذر القيمي الأصيل، فالقيمة هي الأصل، والواجب فرع عنها، كما أن الوجود القيمي سابق على كل فعل أو أمر أخلاقي، فهو أفق تتجلى فيه إمكانات الفعل الإنساني.

ويرى شيلر أن القيم ليست نسبية، لأن معناها لا يقوم على علاقة أو مقارنة، بل تنتمي إلى فئة “الكيفيات المطلقة” التي لا تتبدل، والذي يتغير هو وعينا بها لا هي نفسها، ونسبيتنا المعرفية لا تمس إطلاقها الوجودي، لانها ثابتة، لكنها تتجلى بدرجات مختلفة في الوعي الإنساني والتاريخي. ومن هنا، يشن شيلر حربًا فكرية على كل نزعة تنسبية، سواء أكانت أخلاقية أم تاريخية، مؤكداً أن القيمة ليست اختراعًا بشريًا ولا نتاجًا للتطور الاجتماعي، بل كيانٌ قبليّ متعالٍ على الزمان.

ويُظهر شيلر حسًّا أنثروبولوجيًا عميقًا حين يطبق الظاهراتية على الإنسان ذاته، فيجعله كائنًا قيمياً قبل أن يكون عقلانياً. فالإنسان — في جوهره — ليس “حيواناً عاقلاً” كما وصفه أرسطو، بل كائن يعي القيم ويعيشها وجدانياً، يستمد منها معنى وجوده ومغزى أفعاله، فكل تغير في الحس القيمي، في الأحكام الأخلاقية، في النظم والعادات، هو تغير في الأفق الإنساني ذاته، لا في طبيعة القيمة، فالقيم خالدة، أما طرائق عيشها فتتبدل بتبدل التاريخ.

وهكذا، حرّر ماكس شيلر الفلسفة من أسر المفاهيم العقلانية الجامدة، وأعاد للوجدان مكانته كمصدر أصيل للمعرفة الأخلاقية، فالقيمة عنده ليست فكرة ولا مبدأ، بل حقيقة تُدرك بالحدس الانفعالي، وكأنها إشراقة تكشف للإنسان عن ما يجب أن يكون، لا بما يُفرض عليه من الخارج، بل بما يستدعيه من عمق ذاته الحرة والواعية.

***

د. حيدر عبد السادة جودة

في المثقف اليوم