أقلام فكرية

الحسين بوخرطة: العقلانية الديكارتية وسؤال الهوية

الهوية، بما تنطوي عليه من ثابت ومتغير، تلازم الإنسان منذ ميلاده إلى وفاته. فهي في بدايتها بيولوجية - ـجينية تمنح الذات كينونتها المدنية المغايرة لغيرها. ومن ثمّ يصبح الشخص ذاتًا عاقلة، تنطلق من استعدادات مبرمجة مسبقًا، لتنمو مقوماتها تدريجيًا حتى تصير قادرة على تحمّل مسؤولياتها المعرفية والأخلاقية والقانونية.

فالمولود، منذ اللحظة الأولى، يندفع غريزيًا نحو ثدي أمه لامتصاص الحليب وفق تعليمات دماغية سابقة على أي تجربة. ثم تستقبله الأسرة، وتتكفل به مؤسسات المجتمع، ساعية إلى تشكيله كفرد فاعل، منتج، وإرادي، يختلف بطبيعته عن الآخرين، لأن إرادته ـ متى نضجت ـ لا تحدها الغرائز وحدها. وهكذا ينمو كل مولود في مسار تشكل هويته الخاصة وفق محددات زمكانية، وحسب طبيعة أداء المؤسسات الرسمية ومنظمات المجتمع المدني في بلاده. كل ذلك يجعله في تماس مستمر مع منظومة القيم التي تُغذّيه، والتي تستمد بدورها قوتها من النظام التربوي ومنطق التنشئة المعتمد، واللذين يُفترض أن يصنعا عقلانية راسخة، ذات جودة، للفرد والجماعة معًا.

لقد كان ولا يزال رينيه ديكارت، الفيلسوف الفرنسي، الأب الروحي للعقلانية الحديثة، حيث ربط هوية الذات بالفعل التفكيري. وصاغ ذلك في كوجيطوه الشهير: "أنا أشك، أنا أفكر، إذن أنا موجود."  فقد تميز مساره برحلة شك لا تهدأ، طعن فيها في كل المعارف التي تلقاها، لكونها مكتسبة من الخارج وليست يقينية.

تأمل ديكارت في الحواس كمصدر للهوية، لكنه رفضها عقلانيًا بعدما تأكد أنها خداعة. فالعين، مثلًا، لا ترى القمر إلا دائرة بيضاء متبدلة بين هلال وتمام، مع أن حقيقته ثابتة بوصفه جرمًا عظيمًا. وما يبدو سرابًا على الإسفلت في أيام القيظ ليس ماءً، بل خداع بصري ناجم عن انعكاس أشعة الشمس. حتى حين شك في نفسه، لم يستطع أن يشك في كونه يشك؛ فالشك نفسه تفكير. ومن هنا خلص إلى أن انقطاع التفكير هو انقطاع عن الوجود ذاته.

أما جون لوك فقد حاول دحض الكوجيطو، بالاعتماد على الذاكرة والتجربة كأصل للمعرفة، ورأى العقل صفحة بيضاء تُخطّ عليها التجارب. غير أن طرحه لم يصمد أمام قوة النسق الديكارتي؛ إذ التجربة المخزنة في الذاكرة لا تكون إلا ثمرة عملية تفكير سابقة، والعقل ليس مجرد وعاء فارغ، بل هو محرك للتجربة وشرط إمكانها.

يضرب لوك مثال النار: فالإنسان لا يعرف أنها محرقة إلا عبر التجربة أو بتلقي المعرفة من الغير. لكن ديكارت يرى أن النظر إلى النار، وإدراك خطرها قبل لمسها، ينبع من تعليمات الدماغ التي تقود التفكير. وحتى إذا لمسها المرء بالسهو، فالاحتراق لا يكون إلا نتيجة خلل في التركيز العقلي لا غيابًا للعقل ذاته. وهكذا تتحول التجربة إلى محفز للتفكير المتجدد، ويتأكد أن مصدر الأفعال والأقوال لا يخرج عن نطاق العقل.

أما آرثر شوبنهاور، رائد الفلسفة التشاؤمية، فقد جعل أساس الهوية هو الإرادة والتشبث بالحياة، ورأى أن التفكير مجرد وظيفة دماغية، وأن الذاكرة قد تُفقد مع إصابة الدماغ. ومع ذلك، حتى عند ضياع الذاكرة تبقى القدرة على التفكير صامدة، إذ تتولد الإرادة باستمرار. غير أن شوبنهاور أغفل أن الإرادة في جوهرها غريزة مشدودة بتاريخ التفكير الذاتي، وأن قوتها تتفاوت من شخص إلى آخر تبعًا لمسار التنشئة والتراكمات المعرفية والخبرات الميدانية.

أما الفيلسوف لاشوني، فقد اعتبر الطبع والذاكرة أساس الهوية، لكنهما بدورهما نتيجة لمسار التفكير لا منطلقًا أصيلًا له. أما فرويد فقدم مقاربة جديدة: الهوية عنده تتشكل من تفاعل "الأنا الأعلى" كمنظومة للضوابط المجتمعية، و"الأنا" كسعي لتحقيق الذات، و"الهو" بما يضجّ به من رغبات. فكلما ترسّخ التفكير العقلاني في المجتمع بفضل الدولة ومؤسساتها، كلما تحول "الأنا الأعلى" إلى محفز للإنتاج والإبداع، وزُوّد "الهو" بمشاعر الرضا والسعادة، وتحررت "الأنا" لتبدع وتبتكر.

خلاصة القول: هوية الشخص لا تنفصل عن ترسيخ ملكة التفكير العقلاني كما صاغها ديكارت. والدولة، بمؤسساتها الرسمية وغير الرسمية، مسؤولة عن بناء ذوات مجتمعية متقاربة في حدها الأدنى من العقلانية، وصناعة "أنا أعلى" محفز على العطاء، وترسيخ الحرية المسؤولة. فالإنسان، في النهاية، يجب أن يكون قادرًا على قول: "أنا أريد" مبررًا، و"أنا لا أريد" مؤسسًا على العقل.

***

الحسين بوخرطة

في المثقف اليوم