أقلام فكرية
علي محمد اليوسف: الايمان الديني..لايبنتيز، اسبينوزا، فيورباخ

تقديم: يجمع العديد من مؤرخي تاريخ الفلسفة على أن الفيلسوف الالماني جوتفريد لايبنتيز 1646- 1716، كان معتدلا في أفكاره الفلسفية يتحاشى الإصطدام المباشر بالفكر المغاير، ويطرح أفكاره الفلسفية واضعا نصب إهتماماته الفكرية مصلحة المانيا سياسيا قبل كل شيء، وعلى صعيد الفلسفة ينسب له أنه أحرز تقدما فلسفيا تجاوز فيه كل من ديكارت في تطويره النزعة العلمية وإعلاء قيمة العقل وتمجيد الذات التي مهدت لمرحلتي النهضة والانوار وصولا الى ما بعد الحداثة التي بلغت أوجها في القرن العشرين.(إذ إعتبر مؤرخو الفلسفة لايبنتيز أكبر فلاسفة عصر النهضة التي مهدت أفكاره لمرحلة التنوير ايضا)(1) وقد عارض لايبنتيز طروحات جون لوك حول ألافكار الفطرية في كتابه (مقالات جديدة).
كما لا أجد شخصيا أن لايبنتيز تجاوز سبينوزا في مفهوم ميتافيزيقا الايمان وقدرة الخالق اللامحدودة كما يذهب له بعض مؤرخي تاريخ الفلسفة. وسنعرض سريعا هذا الاختلاف بينهما على صعيد التفلسف اللاهوتي المتباين في تصورهما الله والايمان. كما نشير لمداخلات فيورباخ حول تعالق الانسان والطبيعة في نشأة الاديان لما لإفكار فيورباخ في فلسفة الدين من أهمية بالغة.
وسيرة حياة لايبنتيز جعلته عبقريا بالفطرة الطبيعية قبل تمّكنه من فرادة قدراته الفلسفية المبكرة في أكثر من مجال التي تحصّل عليها أكاديميا حيث حجبت عنه جامعة لايبزج شهادة الدكتوراه لصغر سنه عشرين عاما، في حين منحتها له جامعة (التدروف) وزادت في تكريمها له عرضها عليه أن يشغل كرسي أستاذ محاضر في الجامعة لكنه رفض ذلك تحسبا من نيل الوظيفة الجامعية إستقلاليته الفكرية وتشتيت تكريس وقته للفلسفة. إذ كان متعدد الإهتمامات العلمية والرياضية مثل توصله الى نظرية التكامل والتفاضل في إستقلالية عن نيوتن ونال شهرة واسعة عليها كما صنع حاسبة رياضية لعمليات الحساب الاربعة وغير ذلك من أنشطة.(2)
كما أستطاع لايبنتيز على الصعيد السياسي بمنطقه الفلسفي الرصين دعم وجهة النظر الالمانية في ورقة كتبها حول مشروعية ضم عرش بولندا لها، وأخفق في هذا المسعى كون المنطق الفلسفي لا يغيّر حقائق الارض في أحترام سيادة وكرامة شعوب تلك الدول ذاك الوقت والى اليوم، وحين توّجس لايبنتيز أخطار أطماع لويس الرابع عشر في ضم المانيا وتجنيبها حرب الثلاثين عاما الاوربية نصح الملك الفرنسي تغيير وجهة نظره صوب المشرق وأحتلال تركيا ومصر بدلا من التوغل وراء الاطماع الفرنسية في اوربا وهو ما جرى فعلا... حيث لاقت دعوة لايبنتيز التقدير الكبير والاهتمام الفرنسي ما جعل بلاط باريس يوجه له الدعوة لزيارة باريس التي مكث فيها فترة قبل سفره الى بريطانيا تراوده نفس الإحساسات السياسية على صعيدي الإصلاح الداخلي وصعيد الطموحات الخارجية التي زرع بعضها في كل دولة زارها تراودها نزعة التوسع الاستعماري....
ولم يحقق مقترح لايبنتيز الملك الفرنسي لويس الرابع عشر بل حققه له نابليون بونابرت في غزوه لمصر وبلاد الشام في (1798- 1801). وكانت تلك حملة السيطرة الاستعمارية الاولى التي فتحت الباب على مصراعيه في قضم وإستقطاع مستعمرات الامبراطورية العثمانية الشائخة بما عرف عنه تاريخيا الاستعمار القديم الذي تقاسمته فرنسا مع بريطانيا وإيطاليا والبرتغال في الهيمنة على كامل الوطن العربي وإنتزاعها من براثن سلطة الخلافة العثمانية التي إنهارت تماما عام 1924 على يد علمانية كمال اتاتورك.
إيمان لايبنتيز الديني
إيمان لايبنتيز الديني الذي تضمنه كتابه (الثيوديسيا) هو إيمان فلسفي لاهوتي يقوم على ميتافيزيقا القدرة الالهية والإمكان اللامحدودتين للخالق، وفي مرجعيته الفلسفية المهادنة التي تعتبر حسب قوله إننا نعيش أفضل العوالم الممكنة، يربط لايبنتيز القدرة الالهية اللامحدودة بألفهم الدوغمائي الديني محاولا تقريب فهم الايمان الانساني لاهوتيا بمطلق المشيئة الالهية حين يقول (الله قادر على كل شيء بمعنى أنه يستطيع خلق كل شيء ممكن، لكن عندما يفعل ذلك فلا بد أن يختار بين بدائل يطرد بعضها بعضا بالتبادل التي ليست ممكنة التحقق معا.) (3)، ولنا التعقيب التوضيحي التالي:
في عبارات لايبنتيز السابقة يربط القدرة الإلهية بالإمكان الممكن تحققه وفق قوانين الطبيعة التي تدركها عقولنا المحدودة بضمنها المعجزات الدينية على أيدي الرسل والانبياء.... وليس تحقق الإمكان التخليقي للاشياء من عدم بالمعنى الإعجازي الإلهي غير المحدود بالقدرة والإمكان في ما يريد الخالق إيجاده وخلقه والتسليم به وإذعان المؤمن له.
القدرة الالهية بالفهم اللاهوتي الميتافيزيقي غير المحدودة لا يمنع فعل الامكان (المستحيل) عائقا أمام الخالق الذي من الممكن أن يكون هذا المستحيل بتصوراتنا العقلية الدينية متمثلا في معجزات الانبياء وليس في قدرات الخالق العابرة لتلك المعجزات التي هي بالحتم كانت تخترق قوانين الطبيعة في تعاليها عند الانبياء إلا أن إمكانية إستيعابها البشري كشيء معجز إلهي ممكن تصديقه ميتافيزيقيا.. وليس من المستحيلات خلق كل شيء في قدرة الخالق غير المشروطة كما يفترضها لايبنتيز (لابد للخالق أن يختار بين بدائل يطرد بعضها بعضا بالتبادل التي ليست ممكنة التحقق معا)..هذا التعبير يحاول مواءمة ما يخلقه الخالق مع مدركاتنا المحدودة في الاستيعاب والتصديق بما هو وارد إلينا من المعجزات الخارقة للمعقول.
وليس معجزات الله الصادرة مباشرة عنه بما لا قدرة على مداركنا العقلية إستيعابها وفهمها سببيا. كما أن الاشياء والموجودات التي يرغبها الخالق لا تقف أمامها إستحالة إمكانية تحقيقها دفعة واحدة كما أشار له لايبنتيز في تعّذر الخالق تحقيقه إلا وفق أسبقية الجديد على القديم.
أعتقد من السذاجة تصورنا أن ممكنات قدرة الله في خلقه الاشياء والعالم والموجودات والطبيعة والانسان نفسه جاء أو يجيء برغبة الانسان المسبقة أن يخلق الله له ما يرغبه ويحتاجه الانسان بالحياة. (الله قادر على خلق كل شيء ممكن) كما في تعبير لايبنتيز ليس تلبية رغائب الانسان.. وهل يوجد شيء عصّي على الله خلقه وإيجاده من عدم؟ كي يكون هناك أشياء غير ممكن خلقها إلهيا؟..
الإيمان بالقدرات الإلهية الإعجازية هو الايمان القلبي الميتافيزيقي الحدسي وليس الايمان العقلي بالتصديق البرهاني الحسي بقدرات كلية وخاصيّات مدركة غير مصدّقة عقليا لكن واجب التسليم الايماني بها، وهي قدرات إعجازية لا يمكننا الإحاطة العقلية الإدراكية لها في خرقها قوانين الطبيعة وخرمها جزئيا أو كليا تلك المعجزات فوق الطبيعة مخالفة إيجادها بقوانين الطبيعة ما يحتم أن يكون التسليم على أنها قدرة وإمكانية ربانية غير منظورة ولا محدودة ولا نهائية.
والمعجزات ليست خاصية الانبياء على الدوام وإمتداد العصور التي لا تخضع لقوانين العقل والطبيعة بل هي معجزات الايمان القلبي الروحاني في التسليم برغبة الخالق أن تكون فتكون، حيث دائما ما نجد اللاهوت الديني يؤكد أن القدرة الالهية هي إمكانية خارقة لقوانين الطبيعة في إمكانية الخلق من العدم، والخلق خارج قدرات العقل البشري الادراكية في إنعدام التعالق السببي بين الاشياء في فهم آلية حدوثها وتطورها خارج قوانين فيزياء الموجودات أيضا بما يعجز العقل تفسيرها..
بمعنى حسب المصطلح اللاهوتي الحديث المتفق عليه الايمان الديني ميتافيزيقيا هو أيمان قلبي وجداني ضميري أخلاقيا لا يمكن مقايسته المقارنة بالقبول والرفض عقليا منطقيا بالنسبة للفرد ولا الجماعة وهو رأي ساري المفعول الى يومنا أن الايمان الديني لا يحاكم بمنطق العقل العلمي ولا بالمنطق الطبيعي سببيا في إدراكنا الموجودات.
نظام الاشياء من حولنا هو نظام محكوم بقوانين طبيعية ثابتة أوجدها الله حسب إجماع اللاهوت الديني، وليس في وارد الإرادة الالهية القدرة الخالقة للاشياء لما هو جديد في إستيعابنا المعرفي المحدود إحلالها بدل القديم أن يكون حاضرا بالتبادل في إزاحة المبدل عنه وتنحيته إلا وفق أحكام تلك القوانين الطبيعية التي ندركها نحن والتي لايعمل بموجبها الخالق بتحقيق رغائبنا، وهذا ما لا ينطبق جملة وتفصيلا على معيارية المقايسة المقارنة بين حصول تبادل الاشياء بقدرة الإمكان الإلهي اللامتناهي الإعجازي وبين تلك التحولات المدركة فيزيائيا عقليا في نظام العالم الطبيعي من حولنا.
ما يدركه العبد المخلوق من قدرات يستطيع إدراكها إيمانيا على شكل معجزات وأفعال خوارق للطبيعة هي لاشيء يذكر بمقياس لا محدودية القدرة الالهية الإمكانية للخالق في خلقه لما يشاء التي تعتبر معجزات الانبياء نقطة في بحر المقارنة مع القدرة الامكانية الالهية بخلقه لما يريد هو لا ما يريده الانسان بخلق الله له .
أختيار الخالق للبدائل تحت حكم وجوب أن يطرد بعضها البعض الآخر في انتهاء صلاحية ألاقدم البقاء وإشغالها حيّز الوجود على وفق مشيئة إلهية مستقلة تماما عن أحكام قوانين الطبيعة الفيزيائية منها على وجه الخصوص في محدودية القدرة الإدراكية لدينا، إنما يقوم على مبدأ إيماني ميتافيزيقي لا يحتاج براهين عقلية له، ولا يمكن لعقولنا معاملة الأخذ بها قناعة متجردة في عدم إمتلاك الحرية وقدرة الإختيار، فما يخلقه الله لا يحتاج تبريره بقوانين عقلية محدودة تفهمها عقولنا سببيا كما نفهم نظام بعض قوانين الطبيعة . فالله يخلق ما يشاء بلا حساب ولا مساءلة ويصبح ما يخلقه من مسلمات الايمان البدهي الميتافيزيقي بالتصديق الذي لا يطاله النقاش القاصر من لدن مخلوقاته التي لا تدرك الغاية الموجبة المتوخاة بخلق كل شيء أو هذا الشيء دون غيره. هذا مجمل ماتتفق عليه الاديان الربوبية والتوحيدية على السواء.
الايمان الديني بين سبينوزا ولايبتنيز
نجد من المهم المقارنة بين فهم الايمان الديني عند سبينوزا السابق عصره لايبنتيز وإختلافه عنه بماذا ؟، سبينوزا كما هو مفهوم عنه لا يرى إمكانية التحقق من الخالق في المعجزات المنسوبة للانبياء الخارقة لقوانين الطبيعة وتنسب لمشيئة الخالق تنفيذ الانبياء لها، الذي هو كيان غير متعيّن ولا مدرك على صعيد مفهوم ميتافيزيقا الوجود، ويمكن القول أن سبينوزا لايفهم الخالق فهما لاهوتيا ميتافيزيقيا مشخصنا ذلك الوجود بصفات وقدرات إلهية لامحدودة ولا نهائية متعالية الوجود على الطبيعة والانسان، كما تنص عليه مقدسات الكتب الدينية دليل قول سبينوزا (لا أحد في العالم كله يستطيع أن يسن قوانين الدولة الدينية المقدسة، وغاية الدولة الحقيقية للحكومة هي الحرية)(4)، حرية الإختيار لنمط التديّن الذي يرتضيه الفرد وليس الذي يفرض قدسيته الايمانية رجال الدين التسليم به قسرا على الناس.
وهذا إستقراء ذكي وتنبؤي غير مسبوق أشار له سبينوزا منذ القرن السابع عشر في إجتناب مخاطر تسييس الدين وجعله مطيّة تحقيق منافع وإمتيازات رجالات السلطة والحكم في إشباع ملذاتهم الدنيوية وإمتيازاتهم الارضية وليس تحقيق عدالة الارض وحقوق العباد التي يوصي بها الخالق ونجد تنفيذها الظالم المجحف الخرافي المسخ من قبل سلطة الحاكم الإستبدادية في الارض بوساطة رجال الدين المؤدلجين سياسيا بما يرضي رغائب الحاكم وتركيع كل شيء أمام قدميه في تنفيذ ما يريده.
كان من المفروض أن يستفيد لايبنتيز من مفهوم سبينوزا التديني المتقدم كثيرا على أفكار لايبنتيز الغارقة في فلسفة دينية ميتافيزيقية قام بها في قفزة مناوئة رجعية لم يستطع فيها لايبنتيز فهم ما حققه سبينوزا في الايمان الديني المتقدم والبناء عليه، وشخصنة لايبنتيز للذات الالهية وقدراتها أرجعت الحس النقدي الديني الذي أرساه سبينوزا للوراء الى مرحلة العصور الوسطى في تحاشي وإهمال جديد ما حققه سبينوزا في عدم أخذ الايمان الديني من مصدر إلهي مشخصن ذاتيا غيبيا ميتافيزيقيا ولا من كتب لاهوتية مشكوك بصدقيتها المليئة بمعجزات الانبياء وسيرهم الذاتية المكتوبة الملفقة التي تصادر حرية التفكيرالعقلي في التديّن، الذي أشار لرفضه ومارسه فلسفيا سبينوزا بشجاعة تحسب له وفي ظروف صعبة كادت تودي بحياته.
بوجيز العبارة كان سبينوزا راديكاليا عنيدا في تفسيره اللاهوت والمعجزات بالمقارنة بميوعة ومهادنة وترضية ممارسات لايبنتيز التلفيقية التوفيقية في محاولته إرضاء جميع النخب الدينية على حساب إعادة ضلالة الشعوب وحصدها المآسي التي أثخنتها العصور الاوربية الوسيطة بجروح لم تندمل إلا وقتما وضع العلم سطوته المهيمنة على اللاهوت الديني ونحّاه جانبا من طريقه.
سبينوزا يتقدم ويختلف مع لايبنتيز بأنه لا يؤمن بخالق مشخصن ميتافيزيقيا بل يؤمن بصفات إلهية موزعة بقدرات عجيبة مذهلة للعقل موجودة في الطبيعة والانسان، وهو مذهب ديني لم يعتمده متصوفي وحدة الوجود كما فهمه سبينوزا فهما قائما على إنتزاع الايمان بقدرات فردية تدرك عجائب الخالق بمخلوقاته. وليس في محاولة المتصوفة التماهي التذويتي الإتحادي بالخالق ميتافيزيقيا مع كيان من الممكن الإفتراضي للمتصوف الوصول حافات ذلك الكيان النوراني والإتحاد به كما يدعون.!!
الصوفية مارسوا مذهب وحدة الوجود في غير طبيعته الانسانوية القائمة على أنسنة موجودات الطبيعة في علاقة قائمة على فهم الانسان الفطري في تفسيره ظواهر الطبيعة على أنها دلالات توضيحية تحيطنا بالحياة لا نستمدها من اللاهوت الديني الوضعي ولا في المعجزات كما حذّر منه سبينوزا، حيث تعاملت المذاهب الصوفية العديدة مع الخالق كنور مشخصن من المتاح الممكن الاتصال الروحاني به والحلول بذاته في إستقلالية ماهوية لا يمكن عبور جدارها المانع أو تخطي صفات كينونة الإله النورانية بمصطلحهم الصوفي في محاولة تلفيق إمكانية تحقق الاتحاد بين ماهيتين متباعدتين بالمجانسة النوعية لا يلتقيان لا بالجوهر ولا بالصفات ويجعلوا من التجربة الصوفية إعجازا خارج محكومية قوانين الطبيعة كما يمارسه الانبياء في معجزاتهم...
لايبنتيز يفهم القدرة الالهية كما تفهمه الصوفية العرفانية الحلولية بإختلاف شكلي بسيط عنهم هو شخصنة الله كينونة مدركة من خلال صفاتها ومعجزاتها بما يقوم به الانبياء والوحي الالهي عوضا عنه، وهو ما تدركه عقولنا كخرق إعجازي لا يستطيعه إلا البشر من الانبياء خارقي القدرة وبتكليف من الخالق والتوصية به.، وهذه القدرة الالهية تقوم على مرتكز أساس هو التدخل المباشر في نظام الاشياء وقوانين الطبيعة عندما يختل توازنها الطبيعي أو حين يصل عدم الايمان بالخالق طريقا مسدودا أمام النبي المرسل ما يضطره القيام بخوارق معجزة بغية إعادة الإيمان المفقود لدى العامة من الناس، بينما سبينوزا على العكس من لايبنتيز يرى الخالق موزعا كقدرات خارقة في كليّات موجودات الاشياء المدركة في الطبيعة كجواهر وأعراض وفي دواخل الانسان ذاته كما أخذ به فيورباخ من بعد سبينوزا الذي دعا الى معرفة الخالق في إدراك الانسان الطبيعة وتخليقه لمعبوده ذاتيا وليس في شخصنته إنفصاليا متعاليا على الطبيعة والانسان والوجود كما يدعو له اللاهوت الديني في الاذعان والتسليم بلا تساؤل وبلا تشكيك يناقش.
ذهب فيورباخ بقفزة دينية أبعد مما دعا له سبينوزا، بأعتباره الانسان والطبيعة والإله هما دلالة واحدة في التعبير المتجسد في شيء واحد هو إختراع الدين الذي إبتدعه الانسان لا غيره على مراحل انثروبولوجية من خلال علاقته بالطبيعة... ولم يتطرق فيورباخ الى فلسفة لايبنتيز في الشخصنة الالهية الميتافيزيقية متمثلة بالقدرات الإعجازية للخالق، بل أعتمد أفكار سبينوزا في فلسفة مادية صوفية على طريقته الخاصة في خلعه الألوهية على الطبيعة والذات المؤنسنة بها، فيورباخ ركزأهتمامه على معرفة كيف نشأت الاديان عند الانسان انثروبولوجيا وليس معرفة ما ينسب للانبياء من معجزات وما يخلقه الله من موجودات خارقة لقوانين الطبيعة وهل هي صادقة أم لا؟. فيورباخ لا يؤمن بشيء ديني لا يخلقه الانسان بنفسه ذاتيا سواء أكان ماديا أم روحانيا، واذا أراد الانسان التفتيش عن ذاته فليعرفها في إلهه الذي إخترعه وأسبغ عليه جميع الصفات الإعجازية التي لا يقدر الانسان على تحقيق الجزء اليسير منها كموجود في الطبيعة متمايز عنها بالصفات والماهية. بل يكون في تصديقها المطلق وتقديسها والعمل بطاعتها والإبتعاد عن نواهيها.
عشق فيورباخ الطبيعة ومجدّها إلهيا مؤنسنا بشكل لا يصدق معتبرا الدين هومنتج الطبيعة الذي إستولده الانسان من إحشائها إذ كتب لأبيه إني أكاد أضم الطبيعة بقلبي. وهو المنحى الذي إعتمده في نشأة الدين بإستخلاصه من مكمنه الانثروبولوجي، وقد إستفادت الفلسفة البنيوية لدى شتراوس في إقتباسها هذه العبارة (الفكرة) وإسقاطها تعديليا مفاده أن معرفة نشأة اللغة لا تكون من غير مرجعية الإستناد على تطور الانثروبولوجيا منذ عصور لاتاريخ ألأقوام البدائية....ومن المعلوم أن اللغة تتقدم الدين في النشأة وكليهما ناتجان عن الانثروبولوجيا التاريخية للمسيرة التطورية للانسان.حتى النظرة الموضوعية الطبيعية ماديا التي أعتمدها سبينوزا في عدم شخصنته الله ميتافيزيقيا وتصديق معجزات الانبياء بل الأهم كان عنده النظر في صفات الخالق الإعجازية الموزعة بنظام الطبيعة وموجوداتها الانسان من ضمنها فقط ولا يوجد هناك ذات إلهية مشخصنة ميتافيزيقيا بصفات يمليها الانسان عليه في شخصنة الله..
والتفت فيورباخ لهذه الموضوعية الطبيعية الإسبينوزية في تقديسه الطبيعة إلهيا كونها المصدر الوحيد في معرفة وإستقصاءات نشأة الدين.. مؤكدا لا وجود لدين لا يستولده الانسان من الطبيعة ذاتها ومن تفكيره العقلي الجدلي التجريدي معها. متغاضيا عن إدانة ماركس لهذا التمجيد للطبيعة كمصدرتخليقي للدين، بدلا من مركزية العامل الاقتصادي والتفاوت الطبقي في تقدم التاريخ وفهم جدل المادية التاريخية، كما أدان ماركس أيضا إهتمام فيورباخ تقديسه الطبيعة لإبتعادها عن المنهج المادي الذي يتعامل هو به، داعيا أهمية الابتعاد عن شخصنة الذات الالهية في قدراتها خلق كل شيء في إستقلالية منفردة متعالية على الطبيعة والانسان...
طبعا كان هذا في تلبية توكيد نزعة الإلحاد لدى ماركس وفيورباخ معا.. وليس في التماهي مع منطلقات سبينوزا الايمانية أن الله الخالق موجود في كل شيء يدركه الانسان في محيطه وعالمه الخارجي. ورغم إستماتة سبينوزا نبذه ميتافيزيقا التدين خارج علاقة فهم معجزات الطبيعة مع الانسان الذي رسخّه لاهوت القرون الوسطى، وعدم شخصنة الخالق ميتافيزيقيا خارج قوانين وموجودات الطبيعة، وما أعقب ما حققه سبينوزا في دعوته نبذ اللاهوت الوضعي والمعجزات، قام لايبنتيز بردة دينية رجعية في تاكيده أصل الدين هو ميتافيزيقا خلق الله كل شيء والانسان مخلوق ميتافيزيقي تلازمه نزعة التدين أولا واخيرا، فالإثنين كليهما سبينوزا ولايبنتيز لم يقتربا من المنهج المادي الذي أنبثق التعامل الفلسفي به المضاد للدين مع بدايات هيجل ونهايات ماركس وانجلز في إنجازهما البيان الشيوعي وبعده كتاب راس المال في تطويرهما المادية التاريخية والمادية الديالكتيكية على صعيد المادة وظواهر الطبيعة والحياة..لذا حين ظهرت أفكار فيورباخ المادية الراديكالية التي شكلت خروجا مارقا على تعاليم مثالية هيجل في القرن الثامن عشر وإنشقاق الشبان اليساريين عن هيجل كما فعل فيورباخ وماركس، ظهرت بوادر ماركسية جديدة في كيفية الجمع بين ديالكتيك هيجل المثالي الذي يرى مجال الجدل هوالتفكير العقلي المتعالي والمجرد على/ عن الواقع، مع مادية فيورباخ الإنثروبولوجية الصوفية التي لاتعترف بالجدل المثالي الهيجلي في إنحرافها القول بأن العامل الديني هو المحرك المتقدم للتاريخ. ما أثار حفيظة ماركس في إعتماده مركزية العامل الاقتصادي هو المحرك الاول للتقدم التاريخي في حتمية ملزمة تطورية ما جعله يشن هجوما لاذعا بالضد من فيورباخ. ضمنه كتابه (أطروحات حول فيورباخ 3 اجزاء). ولم ينكر ماركس وصفه لكل من هيجل وفيورباخ أنهما فيلسوفان عظيمان ولولاهما لما أنجز العديد من أعماله بتعاونه مع انجلز وبخاصة إسهامهما في تطويرمفهوم المادية التاريخية.
وصمت صوفية افكار فيورباخ في فلسفة التدين عنده في كتابيه أصل الدين وكتاب جوهر المسيحية رغم إلحاده الصريح الذي وصفه ماكس شتيرنر وهو أحد الشبان اليساريين الذين إنشقوا عن هيجل ايضا وصف إلحاد فيورباخ إلحادا غير متسق مع فلسفته..، وإعتمد ماركس مادية فيورباخ بعد تخليصه لها من صوفيتها الدينية رغم راديكالية فيورباخ في التماهي مع سبينوزا حول أهمية العودة الى عبادة الطبيعة وليس مركزية الدوران حول تشييء الذات الإلهية ميتافيزيقيا.. كي يجد الانسان إلهه في الطبيعة وفي تماهيه الذاتي معها، كما دعا فيورباخ أهمية فصل الدين عن الفلسفة كي ياخذ الفيلسوف حريته الكاملة في التعبير عن أفكاره وما يؤمن به حقا..
وسبب تلك الوصمة الصوفية الدينية المدانة التي لحقت فيورباخ الملحد أنه لم يسترشد بمنهج الديالكتيك المثالي الذي جاء به هيغل وأنكره عليه العديد من الشبان اليساريين المنشقين عن هيجل في مقدمتهم وماركس وانجلزوشتيرنر، وتم على يد ماركس تخليص ذلك الديالكتيك الهيجلي من المثالية الجدلية التي ترى في تطور المادة والظاهرات والتقدم التطوري التاريخي إنما يتم على صعيد الفكر وليس على صعيد ما يعتمل في الواقع من تناقض وجدل طبقي مرتكزه الاساس العامل الاقتصادي في وجوب التخلص من واقع التعامل المجحف في اللامساواة والعدل بين الفقراء والاغنياء المالكين لكل شيء والمحروم منها الفقراء حتى قوة عملهم الذي يبيعونه للمالك كفائض قيمة....
سبينوزا والمرجعية المسيحية
ألايمان الديني عند سبينوزا يكون في كل الامور جوهره الذي يجد الانسان في معبوده رقيبا يلازمه ماثلا لمساعدته ورحمته وليس الانتقام منه والوعيد له بالعذاب والنار في آخرته، ومرجعيته بهذه النظرة الانسانية مستمدة من المسيحية في تداولها أن الانسان لم يخلق للتعذيب المهول يوم القيامة فقد حمل المسيح خطايا الانسان على الارض وضحّى من أجل تخليص الانسان من الحساب يوم القيامة، بما أطلق على مذهب سبينوزا (أله) وحدة الوجود والله موجود في كل شيء مخلوق ومدرك.
والتحريف المتكرر الذي وصم سبينوزا بالهرطقة والتجديف قبل فيورباخ أنه لم يكن متصوفا دينيا بمعنى مفهوم الحلول والاتحاد خارج صفات الخالق في الطبيعة وموجوداتها من ضمنها الانسان،بمعنى سبينوزا لم يشخصن الخالق كموجود متعين بابعاد فيزيائية أو متعين بدلالات إيمانية غيبية ميتافيزقية نورانية روحانية يعجز العقل الانساني إدراكها. بل هو دعى الى الإهتمام بالطبيعة في إدراك الخالق في تذويته الطبيعي في الاشياء والعالم الخارجي.في حين يؤمن لايبنتيز بوجود خالق مشخصن ميتافيزيقيا بالقدرة الممكنة اللانهائية له رغم أنه غير مدرك عقليا لكنه يتدّخل في نظام الاشياء الطبيعية بما يكسر حاجز القوانين الفيزيائية المتحكمة بها والتي يدركها الانسان بمنطقه الايماني وليس بفهمه العقلي..
وعلى عكس من سبينوزا لم يقترب لايبنتيز من أدانة اللاهوت الوضعي الذي يستمد قدسيته الالهية من وجود خالق يكلم بعض الانبياء وينزل على بعضهم الاخر الوحي في الإنابة عنه وصنع المعجزات كما هو في مدونات كتب اللاهوت وادبيات الاديان التوحيدية وغير التوحيدية التي تستمد قدسية تعاليمها من تعاليم الارض الإنتفاعية المكتوبة بأيديهم وليس من تعاليم السماء المثالية الزاهدة بمباهج الحياة الفانية التي أضطروا تدوينها ولم يعملوا بها.. هذه الدعوة التي تغض النظر عن حقيقة ليس كل الناس أنبياء في تصديقهم معجزات الارض، وليسوا كلهم أنبياء ايضا في تصديقهم معجزات السماء المفقودة بلا وساطة أنبياء ورسل مختارين من الله يقومون بتلك المعجزات مؤقتا.
من المفروغ منه أن سبينوزا الذي سبق لايبنتيز وضع الانسان وإيمانه تحت منطق تحرير الفهم الايماني الميتافيزيقي من وجود الخالق المدّبر لكل شيء في الحياة الارضية الى الايمان بالطبيعة ونظام الاشياء وذات الانسان ونزوعه الروحاني الفردي ولم يشخصن سبينوزا الخالق لاهوتيا ميتافيزيقيا كما فعل لايبنتيز بإنفصال الخالق المتعالي على الانسان والطبيعة، ونادى سبينوزا أهمية أن يكون الايمان الديني هو مجرد عقد روحاني غير معلن بين الله وعباده كأفراد وهذا العقد لا تحتويه الكتب المقدسة في فرض رجال الدين عقدا أجتماعيا وضعيا بديلا مقدسا عوضا عنه بما يحقق تطلعاتهم الدنيوية بأسم الايمان بالخالق في وصايتهم على تدين وايمان الناس على الارض.
لايبنتيز وتوحيد لاهوت المسيحية
كان سبينوزا معاديا لا يلين في محاربته رجال الدين في اليهودية وفي المسيحية على السواء، المنتدبين من تلقاء أنفسهم تمثيلهم الوصاية على الدين من الألف الى الياء، وشكك كثيرا في اللاهوت الديني الوضعي الذي كان يمركز الوعي الإيماني الجمعي بالمعجزات التي إعتبرها خروقات فاضحة خرافية لايقبلها العقل السوي، وعلى العكس من سبينوزا وضع لايبنتيز ثقته المطلقة في إمكانية تحقيق الاصلاح الديني من خلال إصلاح رجال الدين، فقد حاول التوفيق بين الكاثوليك والبروتستانت، وبين تعاليم لوثر وتعاليم كالفن Calvin، في محاولته الوصول الى حل توفيقي بينهم، معتبرا الحل يكمن في تغليب نزعة (التسامح) في تذويب إختلافات المذاهب المسيحية الدينية بغية تحقيق الهدف السامي في وحدة اللاهوت الديني وإنقاذه من التشّظي والمحاور المتعددة في التاويلات والإجتهادات الطارئة عليه في تعميقها الإختلافات المذهبية. ومن الجدير ذكره أن سبينوزا كان ذهب أبعد من ذلك في دعوته إزالة الإختلاف التاريخي الديني المفتعل ما بين اليهودية والمسيحية كدين واحد وطالب في وجوب عودتهما دينا موحدا واحدا كون إختلافات الديانتين ليست حقيقية ومن الممكن تسويتها بقليل من التوافقات.
هذه الدعوة رغم سمو نواياها الاصلاحية العاطفية الدينية الصادقة أوقعت فيلسوفنا لايبنتيز في مطب سعيه الذي ذهب أدراج الرياح في مهمته تحقيق إصلاح رجالات الدين وخلافاتهم التي رأى في حلها تضع الدين المسسيحي على سكة الاصلاح الحقيقي، مغضيا الطرف أن شرعنة اللاهوت الارضي لم يكن أساسا حول الإختلاف في تفسير والتزام تعاليم المسيح ولا تعاليم غيره من الانبياء والرسل. أنما الإختلاف الذي لاينفع معه التسامح الاصلاحي هو مدونات كتب الاديان وأدبيات المذاهب المنشقة في تعميق خلافات إنشقاقات تلك المذاهب الدينية على أموردنيوية ليست من صميم تعاليم المسيحية الانسانية الحقة..لذا كان إصلاح رجال الدين دعوة عقيمة لم يفلح بها الفلاسفة لكنهم طبقوها بصمت في حياتهم.
***
علي محمد اليوسف
...........................
الهوامش
1. وليم رايت /تاريخ الفلسفة الحديثة/ ترجمة محمود سيد احمد/ تقديم ومراجعة امام عبد الفتاح امام ص 130
2. نفسه ص 132/3. نفس الصفحة/4. نفس الصفحة